تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

اللغة الثالثة.. أو العامية الفصحى!

مصدر الصورة
الأهرام

أحمد عبدالمعطي:

الإنسان حيوان ناطق، وبإمكاننا أن نترجم هذه العبارة فى عبارة أخرى فنقول: الإنسان حيوان عاقل، لأن اللغة فكر وعقل وعلم ومشاعر وخواطر لا تنفصل فيها الكلمات عن المعاني، فنحن نفكر باللغة، ونحس باللغة، ونعرف أنفسنا، ونعرف غيرنا، ونتحاور ونتفاهم وننتمى ونتعايش ونتفق ونختلف. ولأن الإنسان حيوان ناطق فهو باللغة حيوان اجتماعي، وهو دون اللغة حيوان فقط لا ينطق ولا يعقل ولا يعيش فى مجتمع ولا ينتمي.

لكن اللغة إذا كانت فطرة، وإذا كنا نولد مستعدين لأن نتعلم اللغة ونتكلم ونتخاطب، فالتعامل مع اللغة ليس فطرة وإنما هو ممارسة وخبرة وحضارة تغتنى بها اللغة وتتثقف وتستكمل ما تحتاج إليه من أدوات لتفصح عنا وعن نفسها وتعبر بدقة ووضوح واقتناع عما نريد. فإذا اختلطت المعانى وهربت الألفاظ ولم تستجب لنا أصبحت اللغة مجرد أصوات أو مجرد لغو وكلام فارغ لا معنى له ولا منطق فيه ولا فهم ولا تفاهم. وتلك هى الحال التى تصير إليها اللغة فى عصور الانحطاط.

 

فى هذه العصور تفسد اللغة وتفسد كل ما تتحدث عنه وكل ما تسميه: العلم والعمل، والفرد والمجتمع، والماضى والحاضر.

وأنا هنا لا أتحدث عن أخطاء نحوية أو إملائية نقع فيها دون قصد، وإنما أتحدث عن أعمال وتصرفات تتجاوز الكلام إلى الفعل وتنتقل من الفرد إلى المجتمع ومن المجتمع إلى الأفراد، أريد أن أقول إن لغتنا فى هذه الأيام فاسدة، وإننا نفسدها بصور شتي، حين نسمى الأشياء بغير أسمائها، وحين نشهد شهادة الزور، وحين نخفى بها الحقيقة، وحين نملأ بها أفواهنا لكيلا نقول شيئا، وحين نستهين بها ونفرط فى حقها ولا نبالى بما نقع فيه من أخطاء وننطق بالكلمات دون أن نعنيها أو نصدقها ونقتنع بها، عندئذ ننفصل عنها ونحن فى الحقيقة ننفصل عن أنفسنا، لأننا نتحول فى هذه الحالة إلى وعى أخرس من ناحية وثرثرة لا وعى فيها من ناحية أخري، وباختصار، نحن لا نعرف أنفسنا لأننا لا نعرف لغتنا.

نحن لا نزال نتعامل مع العربية الفصحى بوصفها لغة أخرى بعيدة عنا دخلت بلادنا مع العرب الفاتحين وارتبطت بالإسلام، فنحن، أو معظمنا، لا نستخدمها إلا فى أداء الشعائر الدينية، أما العامية فهى فى ظننا الفصحى التى فسدت على ألسنتنا، فنحن بين لغة أجنبية من ناحية ولغة أو لهجة فاسدة من ناحية أخري، وهو موقف نشعر فيه بالغربة والنقص والعجز عن تجسيد الهوية والتعبير عنها. لكننا فى هذا الموقف واهمون، لأن العربية الفصحى لم تعد بعد الفتح العربى بألف وأربعمائة عام لغة أجنبية، ولم تعد وظيفتها مقصورة على أداء الشعائر الدينية، ونحن واهمون لأن العامية المصرية ليست فصحى فسدت على ألسنتنا وإنما هى من الأصل لهجة دارجة قديمة أو لهجات دخلت مع القبائل العربية التى دخلت مصر وانتشرت فى الأوساط الشعبية التى اختلط بها الفاتحون على حين ظلت الفصحى لغة مثقفة محصورة فى أوساط العلماء والمثقفين.

الفصحى لم تعد الآن لغة أجنبية، لأنها استطاعت بمرور الزمن وارتباطها بالإسلام أن تحل محل لغات البلاد التى دخلها العرب فى المشرق والمغرب وأن تستقر فيها وتتوطن وتتحول فى بلاد الشام والعراق ومصر والمغرب والأندلس إلى حضارة أصيلة متفوقة لم تعرفها فى وطنها الأصلي، ولم تبق فيها على حالها التى كانت عليها فى مسقط رأسها، وإنما تأثرت فى كل بلد من البلاد التى استقرت فيها بلغاته ولهجاته وتراثه وثقافته وظروفه التى عبر عنها الشعراء والكتاب والمفكرون. ومن المؤكد أن الشعراء الذين ظهروا فى الشام والعراق والأندلس ومصر يختلفون بعضهم عن بعض كما يختلفون جميعا عن الشعراء الذين ظهروا فى جزيرة العرب، وكما أن العربية الدارجة فى مصر تختلف عن العربية الدارجة فى بلاد المغرب والمشرق. فالفصحى تختلف هى الأخري، ربما بدرجة أقل، فى هذه البلاد التى تزعمت حركة الثقافة العربية وأضافت لها الكثير مما لم تكن تعرفه من قبل.

النثر العربى ظهر وانتشر فى كتابات عبد الحميد الكاتب الذى عاش فى القرن الثامن الميلادى وكتب لمروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين، وهو يعتبر أول ناثر فى اللغة العربية. وفى هذا يقول مؤرخو الأدب «فتحت الرسائل بعبد الحميد»، ومن بعده ظهر ابن المقفع والجاحظ، وظهر كتاب السيرة وكتابات المقامات.

وإذا كانت المعلقات قد ظهرت فى جزيرة العرب وظهرت بعدها الرسائل والمقامات فى الشام والعراق، فقد ظهرت الرواية والمسرحية والقصة القصيرة فى مصر، بوسعنا إذن أن نتحدث عن فصحى شامية، وفصحى عراقية، وفصحى مصرية، وفصحى مغربية، وأن نعتبرها كلها لهجات فصحى مشابهة للهجات الدارجة، وإن حافظت كلها على القواعد الأساسية والمعجم المشترك. ولعل هذه اللغة الوسطى أن تصبح موضوعا لدراسات أكاديمية يضع فيها الباحثون أيديهم على السمات الخاصة التى تتميز بها الفصحى فى كل بلد عربي، ولنعرف نحن المصريين أن العربية الفصحى لم تعد عندنا لغة أجنبية، وإنما أصبحت فى شعر البهاء زهير وعبد الرحمن الشرقاوى وصلاح عبد الصبور وفى نثر طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، وفى الصحافة المصرية لغة وطنية لا يقل ما يملكه فيها الشعراء والكتاب المصريون عما يملكه شعراء نجد أو الشام أو العراق أو المغرب والأندلس.

وأنا لست أول المتحدثين عن هذه الفصحى المحلية أو الفصحى الدارجة، لقد سبق للحديث عنها عدد من الكتاب المصريين منهم محمود تيمور وتوفيق الحكيم، تيمور فى الفصل الأخير من كتابه «مشكلات اللغة العربية» الذى سماه «العامية الفصحى»، ويقصد بها المفردات التى نستعملها فى أحاديثنا اليومية ونتجنب استعمالها فى الكتابة لأنها فى نظرنا كلمات عامية، مع أنها كلمات فصيحة، كما يؤكد محمود تيمور: نحتاج لاستعمالها لنزود الفصحى بزاد من الكلمات الحية نحتاج إليه، خاصة فى إنتاجنا القصصى الذى لابد أن نصور فيه الشخصيات والأوساط الشعبية. أما توفيق الحكيم فيسمى هذه الفصحى الدارجة «اللغة الثالثة» التى تقع فى مكان متوسط بين العامية والفصحى وتجمع بينهما. وقد استخدم الحكيم هذه اللغة فى مسرحيته «الصفقة». لكننا لم نقرأ رأى مجمع اللغة فيما قاله تيمور والحكيم.

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.