تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الدكتور وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا ويوميّات قناص كركرونا  – مِقْبَرَةُ اَلسُّفُنِ وَ الْحَقَائِقُ اَلْمُرَّةُ اَلْمَخْفِيَّةُ - 61 -

مصدر الصورة
خاص

جلست إستيلا على الشّاطئ المهجور تتأمّل الأمواج التي تنساب على الشّاطئ الرّمليّ مع غياب الشّمس، وأصوات طيور الشّاطئ تصدح في الأجواء بين الحين والآخر لتعود بها إلى الواقع، والريّح تلفحُ وجهها. كانت الرّياح باردةً تعزف أنغاماً حزينةً بينما هي تراقب القوارب الرّاسية على الشّاطئ خاويةً ليس فيها حياةٌ. كانت تهتزّ من كلّ موجةٍ قادمةٍ وهي  تغسل الرّمال من حولها وتشاهد اسم حبيبها  الذي كتبته على  رمال الشّاطئ.

كانت إستيلا تنظر إلى باخرةٍ تبحر بعيداً والذّكريات تلاحقها وهي تنظر بألمٍ  وتتذكّر كيف سقط حبيبها في البحر وافترستهُ أسماك القرش  أثناء رحلة حبٍّ على شواطئ الجزر اليونانيّة. كانت تنظر إلى الباخرة وكأنّها تقلّ حبيبها من أعماق البحر لترمي به الأمواج على مقربةٍ منها. أخذت تُلوّح للسّفينة بشالها وهي تردّ شعرها المتطاير عن عينيها، واختفت السّفينة في عمق البحر وتوارت عن ناظريها. مالت الشّمس للمغيب، واقتربت إستيلا من طيور البحر لإطعامها من زادها وهي تلتقط الصّور الجميلة لأشعّة الشّمس الذّهبيّة التي عكستها مياه البحر لطرد الكآبة والحزن من عينيها الدّامعتين وقررت العودة إلى البيت لتستعيد شريط ذكرياتها وهي تتصفّح الصّور الجميلة التي التقطتها مع حبيبها خلال الإبحار في البحر الأبيض المتوسّط .

جلست إستيلا أمام حديقة بيتها الصّغيرة، وكان الشّارع خاوياً من المارّة ويخيّم عليه السّكون المطبق على الرّغم من التّقارب بين المنازل، لكنّ الخوف من جائحة فيروس كورونا جعلها تبقي النّوافذ مغلقةً والأنوار خافتةً باهتةً. لم تأبه إستيلا للسعات البعوض في حديقتها، وبقيت تستمع لموسيقا هادئةٍ وهي تقلّب في ألبوم الذّكريات من الصّور ..

دبّت الحياة من جديدٍ في الألبوم وسمعت الضّحكات وووقع الأقدام في الرّكض على رمال الشّاطئ واستعادت مشهد الاستلقاء على الصّخرة وهي في قمة السّعادة والابتسامة العريضة لاتفارق وجهها. كان هدير الموج أسرع من دقّات قلبها وشعرت بدفءٍ في حضنها وكأنّ حبيبها يعانقها ويقبّلها من جديدٍ ...

        كان اسم السّفينة (جواهر البحر)...

        هل كنت تعلمين بالرّحلة؟

        لم يخبرني؛ أراد أن يفاجئني بعيد زواجنا العاشر في جولةٍ بالبحر الأبيض المتوسّط...

        لماذا قفز في البحر؟

        كان يتمشّى بعد سهرةٍ جمعتنا على ظهر الباخرة، ودخلتُ الحجرةَ، ولكنّه فضّل البقاء ليتمشّى، فسقط في البحر وأكلته أسماك القرش.

        ألم تعلمي بذلك؟

        لم يخبرني أحدٌ إلّا بعد فوات الأوان، ولم يستطع أحدٌ إنقاذه.

        هل قتل نفسه؟

        لم أجد الجواب حتّى الآن ، لا أظنّهُ فعل ذلك عن عمدٍ لأنّه يعرف أنّ قتل النّفس عمداً إثمٌ، ربّما يكون ذلك نتيجةً لحظةٍ لليأس.

  • إذاً لماذا فعل ذلك؟
  •  أراد ان يتنصر على الموت الحتميّ،  وأن يعبّر عن الأمل بأنه سوف يولد من جديدٍ في مكانٍ ما  ويعيش حياةً أفضل ليعود شابّاً من جديدٍ...انظر هذه هي المقصورة التي كنّا بها وهذه هي الأشياء الجميلة، لقد احتفظتُ ببعض الصّور منها.

        أتحبّين البحر؟

        كثيراً لأنّه يحتضن من أحبّ، وربّما تجرفني المياه يوماً ما إلى الأعماق وأكون بجانبه ...

وتوالت الأيّام وتذّكّرت القصّة عندما كنت أتصفّحُ الصّحيفة اليوميّة إذ لاحظتُ صورةً للباخرة وقد رست على السّواحل الغربيّة للهند. لم أشأ أن أُخبرَ إستيلا بقصّة الباخرة  التي رست في الهند وتحمل الاسم ذاته "جواهر البحر" (Jewels of the Seas)   التي أصبحت باليةً وتجاوز عمرها خمساً وعشرين عاماً، وقد تمّ شراؤها وأبحرت إلى شواطئ الهند ليتمّ تحطيمها وبيع قطعها هناك، وطمس قصص العشّاق الذين سافروا على متنها.

قرّرت أن أشدّ الرّحال عام 2004 وسافرت إلى ولاية غوجرات للتعرّف على ميناء ألانغ الذي يعدّ من الموانئ العشر الأكبر في العالم لتحطيم السّفن، وأعددت  تقريراً مصوّراً أجريتُ فيه تحقيقاتٍ عن الأوضاع الإنسانيّة المتدهورة لعمّال الميناء والظّروف المعيشية السّيّئة وانتشار الأوبئة والتّلوث البيئيّ في المنطقة بعد تدفّق العديد من البواخر الملوّثة بالزّيوت السّامّة إلى هناك.

يعدّ ميناء ألانغ الأفضل في العالم لأسبابٍ عديدةٍ؛ إذ يبلغ طوله 12كم، وهناك 183ورشة عملٍ تضمّ كلّ ورشةٍ  240 عاملاً تقريباً، وتقدّر حصّة الهند في هذه السّوق العالميّة بـ 40%، وميناء ألانغ 95% من إجمالي الحصص في شبه القارّة، وعندما تذكر كلمة ( شاطئٍ) سرعان ما يتبادر لذهنك المياه الصّافية النّقيّة، والشّواطئ النّظيفة المليئة بالحياة والمكتظّة ببني البشر، لكنّ شاطئ ميناء ألانغ يحمل صورةً قاتمةً لمقبرةٍ جماعيّةٍ للمئات من البواخر، وتمتدُّ هذه الحبال الضّخمة كالأفعى التي تتلوّى وتحاول ابتلاع فريستها بعد صراعٍ دميمٍ معها لساعاتٍ طويلةٍ.


وتصبّ ثلاثة عوامل إيجابيّةٍ في مصلحة ميناء ألانغ ألا وهي المنحدر الطّبيعيّ للسّفن الموجود فقط في ألانغ المسطّح المائيّ السّهل، وكذلك التّيّار المائيّ المتكوّن من المدّ والجزر والذي يساعد في جرّ الباخرة لأقرب نقطةٍ على الشّاطئ. يوفّر هذا القطّاع 2.5 مليون طنٍّ من الفولاذ سنويّاً، أي بمعدّل سفينةٍ واحدةٍ يومياًّ ويضمّ حوالي 70 ألف عاملٍ في قطّاعٍ صناعيٍّ غير منظّمٍ، وحسب دراساتٍ أعدّتها اللّجنة في المقاطعة عام 1999 على 361 عاملٍ، تبيّن أنّ من بينهم أربعة عشر يواجهون خطر التعرّض للإصابة، وأحد عشر معرّضون للحروق، وأربعة عشر منهم معرّضون للجروح، وعشرةً فقط يرتدّون القبّعات الواقية، و شخصاً واحداً فقط يلبس القفّاز.

واصلتُ الرّحلة إلى ولاية غوجرات، ووصلنا إلى مدينة  بهافنا غار، وتوجّهنا إلى ميناء ألانغ. كانت الرّحلة شاقّةً، والطّريق وعرةٌ، والأجواء ملوّثةٌ بالرّوائح والدّخان الأسود والغبار. وتنقّلت تحت الوحل والمياه القذرة في أزقّة الكهوف الصّغيرة والبيوت المغطّاة بألواحٍ من الألمنيوم وقطعٍ من البواخر المحطّمة التي لا تصلح للبيع. كانت القمامة متناثرةً في كلّ مكانٍ، والذّباب يتطاير، وقد نُشرت ثيابٌ رثّةٌ على حبالٍ رُبطت بين المنازل المُتقاربة، ويصعب عليك معرفة فيما إذا كانت مغسولةً أم أنّها قد تُركت لتجفّ. اضطررت إلى لبس الكمّامة طيلة الوقت، وكنتُ أبتعدُ قليلاً عن المكان بين الحين والآخر كي ألتقط أنفاسي، فالتّصوير التّلفزيونيّ والتّحقيقات والمقابلات تستغرق وقتاً طويلاً ولا يمكنني مغادرة المكان.

ازدحامٌ غير طبيعيٍّ، وتوزيعٌ إقليميٌّ لأبناء الولايات من العمّال المهاجرين، ويتمّ تصنيف هؤلاء العمّال داخل هذه الأكواخ حسب اختصاصاتهم، فعلى سبيل المثال يعدّ العمّال من ولاية أوييشا(أوديسا سابقا") خبراء في عمليّة نقل ألواح الفولاذ، يسكنون معاً، و يقطن في كلّ كوخٍ أكثر من 14 شخصاً، بينما هو مخصّصٌ لأربعة أشخاصٍ فقط.

يقضي هؤلاء العمّال ساعات الفراغ في تبادل الأحاديث ولُعب الورق، وأماكن السّكن رديئةٌ تحيط بها المياه الملوّثة من كلّ جانبٍ، وكذلك الدّخان المنبعث من الميناء المجاور حيث تحطيم السّفن. معاناتهم مستمرّةٌ ويبدون غير آبهين بأوضاعهم الصّحيّة والنّفسيّة، فالحاجة إلى الدّخل تدفعهم للتّحامل والصّبر على المصائب والمصاعب. السّعادة مستحيلةٌ، وطعم الموت على شفاههم، وكذلك البلاء والشّقاء، ولسان حالهم يقول:


أرى العيـش كنزاً ناقـصاً كلّ ليلـةٍ    ومـا تنقـص الأيّـام والدّهر ينفدُ 

تنتعش الكآبة هنا وتبعث بأحاسيس غريبةٍ بعض الشّيء، وقد عاث اليأس وصيّر أحلامهم إلى كوابيس.
كانت السّفينة راسيةً و حطّت رحالها على شاطئ ألانغ منهكةً من السّفر والتّرحال، تنتظر مصيرها المحتوم، بيد أنّها تُقبر مع عددٍ غفيرٍ من النّاس الذين قُصّرت أعمارهم بسبب تعرّضهم للتلوّث والموت البطيء. هؤلاء العمّال يلاحقونها لتقطيع هيكلها العظميّ إرباً.. إرباً، ونحن إذ نعلم النّهاية الحتميّة لهذه البواخر قلّما نتابع ما حدث لهؤلاء العمّال الذين أشرفوا على دفنها، واعتنوا بأشلائها وأحشائها لإعادة تكرارها واستخدامها في أكبر قطّاعٍ صناعيٍّ.

 هذه المقبرة هي مزرعةٌ من الأمراض المتنوّعة، ويختلط عجاج الصّباح بسحبٍ من الدّخان الأسود ليزيد من تلوّث الهواء. إنّه الاندفاع في طريقٍ مجهولٍ محفوفٍ بالمخاطر، والضّوء المنبثق من أجهزة الصّهر والتّقطيع ينير خفايا النّتوءات والتعرّجات والتجاويف، ورئات العمّال وعيونهم مليئةٌ بالدّخان، ويتصاعد الاختناق لتقترب كفّة الموت من كفّة الحياة. هذا الاختناق يدفع بالعمّال للخروج من جوف السّفينة للتنفّس في بيئةٍ مجاورةٍ ملوّثةٍ أصلاً. الأجواء مزدحمةٌ بالغبار، والعمّال متحرّرون من الآمال، زاهدون بالسّعي لكسب أيّ شيءٍ، ولايزيد  راتب العامل على الدّولارين يوميّاً، ولا شيء يخفّف ثقل الآلام والأوجاع.


أخذتني هذه الجولة الميدانية للتوثيق  إلى الجانب الآخر من الميناء المزدحم بأسواقٍ ومتاجر لبيع المفروشات.
هاهنا على الجانب الآخر من ميناء ألانغ يتمّ بيع محتويات ومفروشات كلّ هذه السفن التي تمّ تحطيمها هناك، ويحقّق البعض أرباحاً جيّدةً، خاصّةً عندما يتمّ شراء سفن نقلٍ للرّكّاب. ولو لم تغرق سفينة التايتنك لانتهى بها المطاف إلى ميناء ألانغ، لكنّ الكثير من هؤلاء الزوّار يجهلون فيما إذا كانت هذه المفروشات قد تعرّضت أصلاً للتلوّث بمواد سامّةٍ، أو تمّ تنظيفها على الأقلّ من الغبار السّامّ. كان من ضمن المعروضات من بقايا الباخرة لوحاتٌ فنيّةٌ ومفروشاتٌ وكراسي وأرائك، وكذلك المعدّات الرّياضيّة.

وقال لي الطّبيب  المشرف - أشوك بهاي -  بأنّ الأمراض الجلديّة هي أكثر الأمراض شيوعاً في هذه المنطقة بسبب قلّة العناية الصّحيّة والاغتسال، وتتنوّعُ الإصابات بين التهاباتٍ جلديّةٍ وفطريّاتٍ والأمراض الزّهريّة والجنسيّة المعدية.

وبدأتُ بالبحث عن تحف وصورٍ كنت قد شاهدتها في ألبوم إستيلا، فحصلت على بوصلةٍ يونانيّةٍ عتيقةٍ، ومنظارٍ أحاديٍّ سويديٍّ، بالإضافة إلى ساعةٍ ضخمةٍ مدوّرةٍ بإطارٍ من النّحاس الثّقيل، وحملت معي هذه الأشياء وغادرت المكان بعد أن قضيت عدّة أيّامٍ أتجوّل في الميناء وأراقب تحطيم السّفن والعشرات منها راسيةٌ بالقرب من الشّاطئ تنتظر المصير ذاته.

ما دفعني للعودة بشريط الذّكريات هذا إلى الشّاطئ والميناء والأسرار المخفيّة هي الفاجعة الكبيرة التي ضربت شواطئ عاصمة الحبّ (بيروت) وما ألحقته من دمارٍ وخرابٍ وزهق أرواح الأبرياء من مختلف الفئات والطّبقات والجنسيّات، كارثةٌ حملتني إلى نشر صورةٍ قديمةٍ لي في بيروت داخل ساحة رياض الصّلح وأنا أطعم الحمام، وأرفقتُ معها مقتطفاتٍ من قصيدةٍ للشّاعر الكبير نزار قبّاني يقول فيها:
كنت أظنُّ أنّ عقدة ( الماسادا) عقدةً يهوديّةً ، فإذا بي أكتشف بعد دمار بيروت ، أنّ العرب أيضاً يعرفون كيف ينتحرون ..
كلّ يومٍ تنتحر مدينةٌ عربيّةٌ على طريقتها الخاصّة ...
واحدةٌ تموت بالسّمّ...
و ثانيةٌ تموت بالقهر
..
و ثالثةٌ تموت بالكآبة ..
و رابعةٌ تموت بالحبوب المنوّمة ..
و خامسةٌ تموت من فرط الشّراب و التّعهّر ..
و ابتداءً من غرناطة إلى يومنا هذا، ليس هناك مدينةٌ عربيّةٌ واحدةٌ ماتت ميتة ربها ..
و إنّما هناك مدنٌ وُجدت مقتولةً في ظروفٍ غامضةٍ...
و لم تتمكّن النّيابة العامّة من معرفة قاتلها ، فسُجّلت الجريمة ضدّ مجهولٍ...

لا يسعنا سوى أن نشارك الشّعب اللّبنانيّ همّه وحزنه وهو جزءٌ من  دمارٍ ومعاناةٍ وآلام وكوارث ألمّت بنا نحن في سورية على مدى عقدٍ من الزّمن، ومازلنا نصارع للبقاء ورأب الجراح،  ولا ندري فعلاً هل سيتمّ الكشف عن ملابسات الحادث والتوصّل إلى الحقيقة دون أيّ زيفٍ أو مراوغةٍ، أم أنّها ستُدفن مع جثث الضّحايا في بيروت وتختفي الأسرار والضّحايا كما يحصل في ميناء ألانغ! سوف ألتقي إستيلا وأهديها ما اشتريته من بقايا سفينة (جواهر البحار).

وللقصّة تتمّةٌ

                                       الدّكتور وائل عوّاد

                           الكاتب والصّحفي السّوريّ الأصل المقيم في الهند

 

 

 

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.