تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

هل أميركا خرافة؟

مصدر الصورة
عن الانترنيت

ذي نيويوركر ـــ روبن رايت

تشعر الولايات المتحدة وكأنها تتفكّك؛ ليس فقط بسبب موسم انتخابات سامٍّ، أو أزمة وطنية على خلفيّة العِرْق والبطالة والجوع في أرض الفرص، أو جائحة تقتل عشرات الآلاف كلّ شهر. أساس أمّتنا يعاني من تشقّقات عميقة، ربّما أكثر بكثير من القدرة على إصلاحها في أيّ وقت قريب، أو على الإطلاق (...). الغضب يستهلك الكثيرين في أميركا، وقد يصبح أسوأ بعد الانتخابات، وعلى مدى السنوات الأربع المقبلة، بغضّ النظر عن الفائز. تصدّعاتنا السياسية والثقافية ولّدت شكوكاً متزايدة حول استقرار بلدٍ اعتبر نفسه، لفترة طويلة، ملاذاً، نموذجاً واستثناءً بالنسبة إلى بقية العالم (...).

«إن فكرة أن أميركا لها ماضٍ مشترك يعود إلى الفترة الاستعمارية، هي خرافة»، قال لي كولين وودوارد، كاتب «الاتحاد: النضال من أجل صياغة قصة أمّة الولايات المتحدة». «نحن أميركات مختلفة، لكلّ منها قصص عن الأصل، ومجموعة قيَم، كثير منها غير متوافق. لقد أدّت إلى اندلاع حربٍ أهلية في الماضي، ومن المحتمل أن تكون قوة حارقة في المستقبل».

الأزمة اليوم تعكس تاريخ الأمّة. لم يتغيّر الكثير، كما اتّضح. استوطنت البلاد ثقافاتٌ متنوّعة: التطهيريون في نيو إنغلند، والهولنديون حول مدينة نيويورك، والأبالاشيا ذات الغالبية من الاسكتلنديين - الإيرلنديين، وأمراء العبيد الإنكليز من باربادوس وجزر الهند الغربية في أعماق الجنوب. غالباً ما كانوا أخصاماً، يشير وودوارد (...). الولايات المتحدة كانت «صدفة تاريخية» إلى حدّ كبير، لأن الثقافات المتميّزة تشاركت تهديداً خارجياً من البريطانيين. (...) بعد ما يقرب من مئتين وخمسين عاماً، يزعم بلد يصل حجمه إلى ستة أضعاف حجمه الأصلي أنه بوتقة انصهرت فيها ثقافة «أميركية» ونظام سياسي يتعهّد بتوفير «الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة». في كثير من الأحيان، لم يحدث ذلك.

بعد قرون، لا تزال الانقسامات والتشقّقات الثقافية عميقة. قد يُعرَّف عن ثلاثمئة وثلاثين مليون شخص على أنهم أميركيون، لكنهم يحدّدون ما يعنيه ذلك - وما هي الحقوق والمسؤوليات التي ينطوي عليها - بطرق مختلفة إلى حدّ كبير. لم يتمّ الوفاء بالوعد الأميركي للعديد من السود، اليهود، اللاتينيين، الأميركيين الآسيويين، وعدد لا يُحصى من مجموعات المهاجرين، وحتى بعض البيض. جرائم الكراهية - أعمال العنف ضدّ الأشخاص أو الممتلكات على أساس العرق أو الدين أو الإعاقة أو التوجّه الجنسي أو الإتنية - تعدّ مشكلة متنامية. وقد حذّرت مجموعة مكوّنة من الحزبين في مجلس النواب، في آب/ أغسطس، من أنّه «في ظلّ تزايد عدم اليقين، رأينا الكراهية تنطلق».

عندما خاضت أثينا وإسبارطة الحرب في القرن الخامس قبل الميلاد، لاحظ الجنرال والمؤرِّخ اليوناني ثوسيديدس أن «الإغريق لم يعودوا يفهمون بعضهم البعض، على الرغم من أنهم يتحدّثون اللغة نفسها». في القرن الواحد والعشرين، يحصل الأمر ذاته بين الأميركيين. تَحوّل خطابنا السياسي إلى «حرب أهلية بوسائل أخرى. نبدو كأننا لا نريد حقّاً الاستمرار في أن نكون أعضاء في بلد واحد»، كتب ريتشارد كريتنر، في كتابه المنشور أخيراً «فكّكوه: الانفصال والانقسام والتاريخ السرّي لاتّحاد أميركا غير الكامل». في أوقات مختلفة من تاريخ أميركا، كان بقاء الاتحاد ناتجاً من «الحظّ والصدفة»، بقدر ما نتج من التلويح بالأعلام والإرادة السياسية. «في كلّ خطوة تقريباً، تطلّب الأمر تنازلاتٍ لا يمكن الدفاع عنها أخلاقياً، أدّت فقط إلى دفع المشاكل إلى المستقبل».

لقد أنتجت محاولة تصفية الحساب مع الماضي المزيد من الأسئلة - وانقسامات جديدة - بشأن مستقبلنا. في العاصمة واشنطن، أوصت الأسبوع الماضي مجموعة مكلّفة من عمدة المدينة، موريل باوسر، في تقرير، بأن يطلب مكتبها من الحكومة الفيدرالية «إزالة أو نقل» نصب واشنطن التذكاري ونصب جيفرسون وتماثيل بنيامين فرانكلين وكريستوفر كولومبوس، من بين أمور أخرى. ووضعت اللجنة قائمة بالأشخاص الذين لا ينبغي تسمية أعمال عامّة بأسمائهم، بما في ذلك الرؤساء جيمس مونرو، أندرو جاكسون، وودرو ويلسون، والمخترع ألكسندر غراهام بيل، وفرانسيس سكوت كي الذي كتب النشيد الوطني. بعد موجة من الانتقادات، قالت باوسر، يوم الجمعة، إنه جرى تحريف التقرير، وإن المدينة لن تُقدِم على أيّ فعلٍ في ما يتعلّق بالآثار والنصب التذكارية. ولكن يبقى هناك سؤال، ليس فقط لأننا نعيش في عصر «حياة السود مهمّة»: ما هي أميركا اليوم؟ وهل تختلف عن ماضيها المُعيب بشدّة؟

منذ أعوام الـ1830، مرّت الولايات المتحدة بسلسلة من الأزمات التي هدّدت تماسكها. بدأت فكرة الجمهورية الثورية الملتزمة بالمساواة (في ذلك الوقت، للرجال البيض فقط) بالتآكل، مع ظهور الاختلافات الإقليمية وتلاشي الجيل الأول من الثوّار. ضغطت الولايات أو الأقاليم، مراراً وتكراراً، باتجاه الاستقلال (...).

هدّدت الانقسامات الواسعة، مرّة أخرى، بالتسبّب في تفكّك الأمّة في الثلاثينيات والستينيات من القرن الماضي، «والآن مرة أخرى؟»، على ما قال لي المؤرّخ في جامعة «ييل»، ديفيد بلايت. اليوم، أميركا مليئة بالحركات الانفصالية الفخورة. وفي انعكاس لـ«بريكست» - خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي - يطالبون بـ«تكست» (تكساس)، «كاليكسيت» (كاليفورنيا)، و«فيريكست» (فيرمونت) (...).

ساعدت الحاجة إلى التجارة الداخلية ومخاطر التهديدات الخارجية في تماسك أميركا. تَجمّعت الفصائل المتباينة في البلاد من أجل مواجهة الاعتداء البريطاني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ والألمان واليابانيين في القرن العشرين؛ و«القاعدة» بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر في القرن الـ21. ولكن الآن، من دون تهديدات خارجية، تنقلب الأمّة بشكل متزايد على نفسها. «نحن بالتأكيد لسنا موحّدين»، قال بلايت. «هل نحن على حافة انفصال من نوعٍ ما؟ لا، ليس بالمعنى الحرفي. ولكن في داخل عقولنا ومجتمعاتنا، نحن بالفعل في فترة انفصال بطيء التطوّر» (...). «الولايات المتحدة اليوم هي بيت منقسم حول ما يبقيه واقفاً»، أضاف بلايت.

في كتابه الجديد، يجادل كريتنر بأنه، مع سياساتها المحطّمة بشكل كبير، فإن وقت أميركا ينفد. احتمال وقوع انفصال جسدي أو سياسي هو الآن حقيقي، على الرغم من أن الاستقطاب في أميركا ليست له حدود جغرافية دقيقة: لا ولاية حمراء هي كذلك بالكامل، ولا ولاية زرقاء هي زرقاء بالكامل. «شهد القرن الحادي والعشرون عودةً لا لبس فيها لفكرة مغادرة الولايات المتحدة أو تفكيكها. مجموعة متنوّعة من الحركات الانفصالية التي شكّلتها صراعات وانقسامات الماضي تجلّت بطرق جديدة، وقد تكون مزعزِعة للاستقرار»، يكتب كريتنر. على عكس الماضي، ظهرت الدوافع الانفصالية الحالية في أماكن متعدّدة في الوقت ذاته. «غالباً ما تُرفض (الفكرة) على اعتبار أنها غير جادّة أو خيالية، إلا أن عودة (الحديث عن) الكونفدرالية والانفصالية الجديدة تكشف انقسامات في الحياة الأميركية، ربما لا تقلّ صعوبة عن تلك التي أدّت إلى الحرب الأهلية الأولى»، يحذّر كريتنر.

في السنوات المقبلة، من المرجّح أن تزداد جاذبية إيقاف التجربة الأميركية، حتى بين المؤمنين المخلصين لفكرة السلطة الفيدرالية. وبحسب ما يكتب كريتنر، ففي حال جرى حلّ الاتحاد مجدداً، فإن ذلك سيكون «في كلّ مكان، ومرّة واحدة». في بعض النواحي، ستكون الانتخابات التي تفصلنا عنها ثمانية أسابيع فقط بمثابة إسعافٍ مؤقت، على الأقلّ لإنهاء حالة عدم اليقين الحالية المؤلمة، لكنها ستلعب جزءاً من الدور فقط في تقرير ما سيحدث في النهاية لأمّتنا. «هل نحن خرافة؟ حسناً، نعم، بالمعنى العميق للكلمة. لطالما كنّا كذلك»، قال بلايت. من أجل البقاء، يجب على أميركا أن تتجاوز الخرافة.

مصدر الخبر
الأخبار

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.