تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

قراءة في دفتر العام الجديد..

مصدر الصورة
وكالات - أرشيف

يمكن تلمّس خطوط عريضة لما ستؤول إليه الأوضاع والعلاقات الدولية في المرحلة المقبلة، في ضوء الواقع الذي نعيشه والتجارب والتحليلات والتعليقات، وفي ضوء التغييرات الحاصلة في الولايات المتحدة الأمريكية:

أولاً، ستحاول الولايات المتحدة الأمريكية استعادة دورها العالمي والعودة إلى ما قبل حقبة الرئيس ترامب، سواء في العلاقات مع أوروبا أو مع الحلفاء الآخرين، أو على صعيد تأكيد التزامها بالاتفاقيات الدولية، والأهم محاولة قيادة العالم من جديد. ولكن حقبة الأحادية القطبية انتهت وبدأت مرحلةُ تشكّل نظام دولي جديد، واللاعبون الدوليون يحاولون ملء الفراغ الحاصل؛ العلاقات الأمريكية مع الحلفاء ولاسيما مع الأوروبيين لن تعود كما كانت أبداً بسبب تبدّل الأولويات وتغيّر نمط العلاقات والمصالح؛ ستواصل الولايات المتحدة تراجعها بسبب المشاكل الكثيرة والكبيرة التي تواجهها في الداخل والخارج من تراجع الاقتصاد والانقسام المجتمعي... إلى المنافسة الدولية الحادة مع الصين وروسيا وغيرهما؛ الولايات المتحدة لم تعد النموذج أو الحلم الذي يرغبه ويسعى إليه العالم.

ثانياً، لم يعد سراً أنّ الصين ــ قصدت أم لم تقصد ــ تتقدم نحو الصدارة باقتصادها وعلاقاتها الدولية القائمة على التعاون والمصالح وليس التهديد والعقوبات كما الولايات المتحدة. الصين "تشبّك" مع دول العالم بعلاقات واسعة ومتنوعة، ولكنها رغم ذلك، لم تقدّم البديل الثقافي والنموذج الذي يجعلها "قبلة العالم" لتتفوق على الولايات المتحدة. وقال الخبير الاقتصادي الروسي بافيل تبلوخين، إن وباء فيروس كورونا المستجد قام بتعجيل عملية تغيير "العصر الاقتصادي" في العالم، ولاح في الأفق "عصر الصين"؛ الحديث عن العام 2028. الصراع الذي بدأ يتوسع بين الصين والولايات المتحدة ليشمل التجارة والاقتصاد والتكنولوجيا الحديثة والمجال الأمني والسيبراني، أخذ يتطور ليشمل أنواعاً أخرى؛ أخطرها التنافس العسكري؛ هذا التنافس ربما قسم العالم في مرحلة لاحقة إلى معسكرين كما في حقبة الحرب الباردة.

لم تعد الولايات المتحدة تخفي أنها تنظر إلى روسيا والصين (ورئيسيهما) كعدوين لها، وهي لحظت ذلك في ميزانيتها الدفاعية، ويتكرر الأمر في تصريحات المسؤولين الأمريكيين. ولا شك أنّ هذا المنظور سيترك تأثيره السلبي على علاقات البلدان الثلاثة، وعلى العلاقات الدولية المتوترة أصلاً. وحالياً تهاجم الولايات المتحدة عبر تكثيف العقوبات على روسيا والصين، فترد الأخيرتان بالمثل وبتخزين الذهب والتعامل بالعملة الوطنية والتخلي عن التعامل بالدولار الأمريكي، وتوسيع التكتلات المناهضة لواشنطن.

ورأى أحدهم أنّ "كل ما يجري من تجاذبات باردة وساخنة هي مقدمات لحتمية قادمة لا محالة، ستسفر، على الأغلب، عن واقع مختلف، قد يكون الحد من سطوة المركزية الغربية لصالح القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا. ولأن الطبيعة تكره الفراغ، فإن التدافع على القمة سيستمر إلى حين إعادة هندسة خريطة القوة، والشيء الخطير أن تلك الخريطة لن تكون عادلة ككل الخرائط، لأنها ستنسف ثوابت وتدحض مسلمات وتأتي بأمور لم تكن أبداً في وارد التوقع".

ثالثاً، تقف أوروبا شبه متفرجة على الأحداث والتطورات الدولية، وها هي تنتظر وصول الإدارة الأمريكية الجديدة لتقرر ما ستقوم به وسط انشغالها بوباء كورونا ومشاكلها الكثيرة. وباستثناء ألمانيا يبدو وكأن "العقم" السياسي قد ضرب معظم دول الاتحاد الأوروبي؛ القارة العجوز اسم على مسمّى؛ فرنسا الرئيس ماكرون تبحث عن إنجاز في لبنان وتفشل، وبريطانيا تبحث عن مكان على الخريطة العالمية بعد البريكست وتخشى من القادم، والأهم، الخوف من التفكك كما حال الإمبراطوريات التي سبقتها. وها هي رئيسة وزراء اسكتلندا نيكولا ستورجن، تقول في تغريدة على الساعة 23.00 بتوقيت غرينتش موعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي: "اسكتلندا ستعود قريبا يا أوروبا.. أبقِ النور مضاء".

رابعاً، وسط هذا الفراغ الحاصل، تتمدد تركيا أردوغان إلى آسيا الوسطى والقوقاز والمتوسط وإفريقيا والخليج العربي وتتدخل في عدد من الدول، فتشعل الكثير من العداوات وتكسب صداقات أقل. تركيا غير مرغوبة من أوروبا ولا من روسيا ولا الولايات المتحدة ولا جيرانها العرب، ولكن الجميع يحاول الاستفادة من موقعها ودورها الوازن بين الشرق والغرب؛ يلعب الرئيس التركي على كل الحبال والتناقضات ويحاول الجلوس على كل الكراسي في آن، وهو ينجح إلى حدٍّ كبير حتى الآن، ولكنّ اللعبة خطيرة، لاسيما وأنّ الراغبين بالتخلص منه ومن سياساته في الداخل التركي وفي الخارج، هم كثر. إلى أين تسير تركيا؟

من الصعب الجزم. لكنّ التاريخ يذكرنا باتفاقية دولية لتقسيم هذا البلد، فهل يعيد التاريخ نفسه عندما تحين الفرصة أو حين يتضخم الدور التركي أكثر مما يمكن احتماله إقليمياً ودولياً؟ أم تشكّل تركيا حلفا مع روسيا وإيران ودول أخرى وتخرج من الناتو؟ هل يستفز الغرب بقيادة الولايات المتحدة أنقرة إلى الحدّ الذي يدفعها للخروج من حلف الناتو؟! الأرجح أن يكون الضغط الغربي مضبوطاً وأن تستمر تركيا الأردوغانية في سياساتها الحالية إلا إذا حصلت تطورات نوعية قلبت المعطيات القائمة، وليس غريباً حصول ذلك في عالم اليوم المتقلب.

خامساً، هذا الميزان الدولي المتأرجح تتضارب كفّتاه في الشرق الأوسط، المتوتر وغير المستقر. إيران المحاصرة تنتظر الإدارة الأمريكية الجديدة، التي لديها أولويات وملفات معقّدة وضاغطة وكثيرة قبل الملف الإيراني؛ كما أنّ التباشير تشير إلى أنّ واشنطن ستطالب طهران باتفاق جديد أعلن عنه مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية عندما أكد أن الواقع تغيّر وأنه لا يمكن العودة لاتفاق العام 2015. إلى ذلك، وفي الحديث عن التطورات في المنطقة، وتزايد التحذيرات وشدّ الحبال، بين إيران من جهة، والإدارة الأمريكية الحالية وإسرائيل من جهة أخرى، يبرز السؤال

بقوة: هل تتجه المنطقة إلى حرب إقليمية تشترك فيها سورية والمقاومة ودول الخليج ضد الكيان الإسرائيلي وحلفائه ، فتتغير الخرائط والتوازنات والتحالفات؟!

وفي السياق، يمكن للمرء أن يراقب كيف تسير الملكيات العربية في الخليج العربي والمغرب نحو التكامل مع الكيان الإسرائيلي؛ ما يتم طرحه يعني انقسام العالم العربي بين المطبعين وغير المطبعين؛ هذا الانقسام/الشرخ بدأ يظهر في السياسات والمواقف والتصريحات من القضايا المطروحة؛ الإعلام المطبّع بدأ يطرح ويتبنى مواقف تتماهى مع المواقف الإسرائيلية، وبالتالي تتعاكس وتتضاد مع مواقف محور المقاومة والبلدان العربية الأخرى.

ومع ذلك، فوضع بعض الدول المطبعة قديما وحديثاً ليس مريحاً أو مطمئناً؛ الأردن، مثلاً، يقف على حدّ السيف إن كان في شأن الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة في فلسطين، أو بشأن تطبيق صفقة القرن على حسابه، أو بشأن وضعه الاقتصادي الحرج وسط انتشار فيروس كورونا وتراجع المداخيل ولاسيما السياحية منها؛ الأردن رهن المطالب الغربية الأمريكية حتى وإنّ حاول مسك العصا من المنتصف؛ فالقرار ليس في القصر الملكي الأردني وحده، ودور السفارة الأمريكية في عمّان في إغلاق الحدود الأردنية السورية لا يحتاج إلى توضيح.

المملكة السعودية المطبعة عملياً وغير المطبعة رسمياً، تتعرّض لهجوم مستمر في الإعلام الأمريكي والبريطاني، ولاسيما على ولي العهد محمد بن سلمان باعتباره الحاكم الفعلي للمملكة؛ الملفات كثيرة ومعروفة وكلها مُكلفة وخطيرة وتنتظر فتحها فيما تتراجع مخزونات الخزينة السعودية: قد يكون الهجوم نوعاً من الابتزاز، أو تحضيراً لمرحلة قادمة ستدفع فيها المملكة أثماناً باهظة أخرى للغرب؛ وللتذكير، فإنه في أي حرب محتملة ضد إيران تشارك فيها المملكة، ستخسر السعودية ما لا يمكن تعويضه في الاقتصاد والاستقرار ومستقبل الحكم. والأهم: أين ستدور رحى أي حرب محتملة بين الولايات المتحدة وإيران، وكيف ستدفع الدول الخليجية التي تستضيف الإسرائيليين الثمن أمنيا واقتصادياً واستثماراً واستقرارا؟!

سادساً، التقلبات والتشابكات والتعقيدات والحسابات الحالية تترك حالياً لبنان وسورية في شبه عزلة عن محيطهما؛ لبنان يتعرض لضغوط دولية ولاسيما أمريكية وإسرائيلية لسلبه حقوقه وللتطبيع مع الكيان الإسرائيلي من خلال المفاوضات الجارية لترسيم الحدود بين لبنان والكيان. ولا يستطيع هذا البلد العربي الصغير المثقل بالديون وتعدد المرجعيات والتبعيات والخلافات تحمّل المزيد، وهدف الضغوط دفعه للاستسلام أو الانفجار، وبالتالي التخلص من المقاومة الوطنية على أرضه، وهذا لم يعد سراً.

أما سورية فتتعرض لمزيد من الضغوط الأمريكية السياسية والاقتصادية وهذا ليس جديداً. وستتكثّف هذه الضغوط أكثر مع اقتراب الانتخابات الرئاسية قبل منتصف العام القادم؛ وفي السياق، فإنّ "الضغوط القصوى" على إيران عامل آخر في هذه الضغوط، لأنها ستقلل من قدرة طهران على تقديم المساعدة الاقتصادية لسورية، لكنّ حديث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في

مؤتمره الصحفي مع وزير الخارجية د. فيصل المقداد يوم 17 كانون الأول في موسكو عن "اتخاذ قرارات جادة للغاية في الأسابيع الأخيرة.. وإنّ هناك برنامج استراتيجي كبير للتعاون الاقتصادي"، ربما يعطي مؤشراً إيجابياً مهماً عن التطورات القادمة ويفتح نافذة أمل لدعم الصمود السوري والاستقرار السوري.

السوريون بعد سنوات الحرب العشرة، استوعبوا أنّ الخروج من الأزمة يبدأ بالاعتماد على الذات وينطلق من سورية ذاتها؛ ولذلك بدأوا مرحلة جديدة بالاعتماد على النفس لتأمين مستلزماتهم في الحياة اليومية الاقتصاد وغيره بغية الوصول إلى الاكتفاء الذاتي، ويمكنهم تحقيق ذلك، وتجربة الحصار في الثمانينات من القرن الماضي تخدمهم وتعطيهم درساً في هذا الاتجاه، وهي، بالمناسبة، لم تُنسَ بعد.

ونرى أنّ تطور الأحداث والعلاقات الدولية يسير لصالح استمرار الصمود السوري وإن يكن ببطء؛ والسبب بسيط، وهو أنّ جميع الدول التي اشتركت في الحرب على سورية، لديها مشاكل تستنزفها وتمنعها من مواصلة هذه الحرب، بدءا من وباء كورونا إلى مشاكل في الاقتصاد والاستقرار الداخلي، والخلافات حول جدوى هذه الحرب؛ إذ بعد عشر سنوات لم تحقق سوى الفشل وتكبيد هذه الدول المزيد من الخسائر والأموال. وهذه التحولات ستدفع الكثيرين في الداخل والخارج لإعادة قراءة الأمور والتموضع..

بديع عفيف

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية - خاص

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.