تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

مصر تدخل أخيرا طريق الإصلاحات الاقتصادية.. ولكن بحذر

مصدر الصورة
العرب

الضغوط الاقتصادية دفعت الحكومة المصرية إلى القبول بالخصخصة، ولكن بالحد الأدنى، إلا أن الإصلاحات الاقتصادية تحتاج إلى قرارات أكثر جرأة من أجل أن تطال الشركات الكبرى التي تضع المؤسسة العسكرية يدها عليها.

لندن – عندما تولت مارغريت تاتشر السلطة في العام 1979، كانت بريطانيا تعاني من أوضاع اقتصادية مماثلة للأوضاع التي تعيش فيها مصر الآن. وتحتاج المؤسسة المصرية أن تعود إلى دروس تلك الفترة لترى كيف خرجت بريطانيا من أزمة تلك الأعوام لتجد نفسها أقوى وأكثر ازدهارا وشركاتها تنبض بالحيوية.

كانت بريطانيا تعاني من أزمتين كبيرتين، ترافقهما سلسلة من “الارتدادات” الفرعية من قبيل التضخم وارتفاع الأسعار والفوائد. الأولى، ضخامة أعباء الديون. والثانية، ضخامة وترهل القطاع العام، مما كان يجمع بين محدودية عائداته، وتكاليفه الباهظة.

وكان القطاع العام يشمل كل شيء تقريبا، من الخدمات الرئيسية إلى الصناعات الكبرى، ومنها صناعة الحديد والصلب، فضلا عن مصادر الطاقة، التي كان الفحم يشكل عصبها الرئيسي، بينما كانت ضغوط نقابات العمال صداعا مستمرا، وتهديدا متواصلا للاستقرار.

بخجل وتردد، أعلن رئيس الوزراء المصري أن مصر تعتزم بيع "حصص" في 32 شركة مع نهاية مارس 2024

وكانت سيطرة القطاع العام تشمل أيضا الملايين من المنازل التي تؤجرها البلديات للمواطنين، وكانت جزءا من الخدمات الاجتماعية المكلفة. هذا فضلا عن خدمات التعليم والصحة وغير ذلك، مما كان يدفع اقتصاد البلاد إلى الهاوية بالفعل.

“الثورة” التي قامت بها تاتشر، أثارت ضدها الكثير من الهجمات والانتقادات والضجيج والإضرابات، ولكن لم تمض سنوات حكمها إلا وقد أثبتت صواب الطريق الذي سلكته. وهو طريق تشرع الحكومة المصرية، ولو بتردد وخفر شديد، بسلوكه مع اعتزامها بيع “حصص” في 32 شركة من شركات البلاد، وهو الأمر الذي يبرر الاعتقاد بأن مصر أخذت بأول الطريق الاقتصادي الصحيح أخيرا.

ولكن من المفيد القول أيضا إن الشركات المعروضة للخصخصة، ثانوية أو فرعية حتى الآن على الأقل، قياسا بما فعلته تاتشر، وهو ما قد يعكس حجم التردد الذي تعانيه الإدارة المصرية، ويثير الخشية من أن جانبا منها ما يزال خاضعا لتأثيرات مفاهيم اقتصادية قديمة.

خصخصت “المرأة الحديدية” كل شيء تقريبا! أخرجت الدولة من كل دوائر عمل الشركات، لتقتصر على مهمات أساسية تعد على أصابع اليدين: الصحة، التعليم، الأمن، الدفاع، البنية التحتية، الأبحاث والتطوير، والاستثمارات الإستراتيجية. كل ما عدا ذلك تم بيعه.

لقد كان القرار يحتاج إلى شجاعة ملفتة للخروج من ثقافة فرضتها أيديولوجيا حزب العمال الرامية إلى “تأميم” الصناعات كلها، لفرض “الملكية العامة” على كل مصادر الإنتاج. ولقد كان الأمر انقلابا شاملا على الماركسية، وعلى تصورات “الأممية الثانية” لدور الدولة الاقتصادي. وعندما ازدهرت تجارة التجزئة، على سبيل المثال، من خلال شركات مثل “ماركس أند سبنسر”، وقفت تاتشر لتسخر في أحد مؤتمرات حزب المحافظين بالقول: إن لدى حزب العمال “ماركس أند انجلز”، ولدينا “ماركس أند سبنسر”.

ما تحقق من استقرار وازدهار أعاد لبريطانيا مكانتها كقوة اقتصادية عظمى، وأثبت أن خياراتها كانت صائبة، بل أنها كانت أكثر “ثورية” من الثوريين الماركسيين في بريطانيا.

ما حصل هو أن “الدولة” بدأت تتصرف كدولة، أي كرئيس مجلس إدارة للإستراتيجيات الاقتصادية والاجتماعية، وليس كمقاول يدفع أجور عماله، عملوا أم لم يعملوا، ربحت أعمالهم أم لم تربح. والفرق بين الدورين كبير جدا. وكان حجم “الدولة” يجب أن يتقلص، لتنخفض إلى أدنى حد ممكن بيروقراطياتها التي لا نهاية لإنفاقها، العديم الجدوى من الناحية الفعلية.

ما حصل هو أن الميزانية العامة تسلمت أموالا طائلة من المستثمرين، وكفت يدها عن دفع تكاليف العمالة ومشكلاتها. وبينما أصبح الربح شرطا من شروط البقاء بالنسبة للشركات التي تولت المسؤولية، فإن الدولة لم تعد تعمل كمقاول. وأصبح لديها ما تنفقه على واجباتها الأساسية. وسرعان ما بدأت الديون تتراجع، إلى حد أن حزب العمال عندما عاد إلى السلطة في العام 1997 بقيادة توني بلير (وكان “تاتشريا” إلى حد ملموس)، فقد تمتعت حكومته بفائض نقدي لم يكن لأحد أن يتصوره عندما بدأت تاتشر حكومتها.

وحدث أن بلير خاطب نقابات عمال الفحم، التي كانت تعد أيقونة مقدسة بين منظومة النقابات المهينة داخل الحزب، بالقول في مؤتمر للحزب “إن بريطانيا تحصل على عائدات من مبيعات الموسيقى، أكثر مما تحصل من عائدات مناجم الفحم”. وأغلق الباقي منها.

لم تكن الثورة التاتشرية ثورة عمياء، أو مجرد انقلاب اقتصادي على أيديولوجيا “الملكية العامة لوسائل الإنتاج”. إذ حافظت على شيئين رئيسيين: نظام ضريبي صارم. ونظام “أمن اجتماعي” فعال. الأول، عزز موارد الدولة. والثاني، وفر شبكة حماية متينة لكل الذين يفقدون أعمالهم، وكفل لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة. كما وفر مراكز لإعادة التدريب والتأهيل لمواكبة متطلبات العودة إلى العمل. ومع ارتفاع مستويات التعليم والخدمات، وارتفاع عائدات الشركات وظهور نشاطات اقتصادية جديدة، فقد تراجعت البطالة إلى حدود متدنية. مما وفر على الدولة جانبا من تكاليف الرعاية الاجتماعية، وزاد في الوقت نفسه من عائدات الضرائب.

ولم تكتف حكومة تاتشر ببيع شركات الاتصالات والكهرباء والماء والغاز والمناجم والحديد والصلب وغيرها، ولكنها باعت منازل البلديات لساكنيها أيضا، حتى أصبح 30 مليون منزل في بريطانيا “ملكية خاصة”، يدفع مالكوها فوائد قروض أقل نسبيا من الإيجارات التي كانوا يدفعونها لسلطاتهم البلدية. كان الربح صافيا للطرفين معا! كما ساهم في انتعاش البنوك، ووسع قدراتها على إقراض الشركات لأغراض التوسع. ومن مبيعات المنازل، نشأت ثورة ارتفاع أسعار العقارات التي أصبحت مصدرا هائلا للثراء العمومي إلى يومنا هذا. حتى أصبح بالوسع أن ترى متقاعدين يُصنفون كفقراء، إلا أنهم مليونيرات بحسب قيمة منازلهم.

وبخجل وتردد، أعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي الأربعاء أن مصر تعتزم بيع “حصص” في 32 شركة مع نهاية مارس 2024، تشمل ثلاثة بنوك هي بنك القاهرة والمصرف المتحد والبنك العربي الأفريقي الدولي، إلى جانب شركات تأمين وكهرباء وطاقة وفنادق وشركات صناعية وزراعية.

وإن وعد العرض بإضافة شركات أخرى، فإنه اقتصر على “ربع” قيمة الشركات المنتظرة. بعض هذه الشركات تُعرض أسهم محدودة منها في البورصة المصرية أصلا، مثل “النصر للإسكان والتعمير” وشركة البويات والصناعات الكيماوية (باكين)، وشركة بورسعيد لتداول الحاويات والبضائع وشركة دمياط لتداول الحاويات والبضائع، إلى جانب “حصص” في شركتين تابعتين لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، هما “الوطنية للمنتجات البترولية” التي تدير سلسلة من محطات الوقود، و”الوطنية لإنتاج وتعبئة المياه الطبيعية” (صافي).

وظل هذا العرض موضوعا للجدل لعدة سنوات. ولولا عبء الديون لبقي الجدل مستمرا لعدة سنوات أخرى. وهو ما قد يثير الخشية من أن الإدارة المصرية اتخذت القرار على حسب القول “مُكره أخاك لا بطل”. بينما كانت تاتشر بطلا بلا منازع، يُدرك تماما ما يفعل.

وارتفعت الديون المصرية في غضون الأعوام العشرة الماضية من 43 مليار دولار إلى 157 مليار دولار بحلول نهاية مارس 2022، أي قبل أن تنضاف إليها نحو 15 مليار دولار أخرى خلال الأشهر الماضية. وتشكل الديون القصيرة الأجل الواجبة الدفع خلال هذا العام أكثر من 80 مليار دولار، وهي أكبر بنحو 180 في المئة من كل ما لدى البلاد من احتياطات نقدية. ووفق بيانات البنك المركزي المصري فقد وصلت تكلفة الدين الخارجي متوسط وطويل الأجل في العام الماضي إلى 15.547 مليار دولار. أما مجمل تكاليف خدمة الدين (الأقساط والفوائد) فقد وصلت إلى 41.5 مليار دولار.

قد يجد التردد تفسيرا في السعي لاستقطاب الاستثمارات، إلا أنه لم يترافق مع إعلان العزم على تبني فلسفة “تخارج” شامل تقترن ببرنامج إصلاحات معلن، يوفر ضمانات للقطاع الخاص، وأمنا اجتماعيا على المستوى نفسه.

ولكن البداية صحيحة. إنها أول الطريق، الذي إذا ما اكتمل، بتوفير أسس صارمة للحوكمة (في النظام الضريبي والأمن الاجتماعي على نحو خاص)، فإن ما تعيشه مصر من ضائقة اليوم، يمكن أن يتحول إلى رخاء غدا.

مصدر الخبر
العرب

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.