تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

نصف الاقتصاد "كذب"...ونصفه الآخر "كذب بريء"

يعتقد الاقتصادي الأمريكي جون كينث غالبريث في كتابه الأخير "أكاذيب الاقتصاد" أن جزءاً كبيراً من علم الاقتصاد يقوم على نوع من "الكذب البريء" الذي لا يقودصاحبه إلى الشعور بالذنب أو المسؤولية وذلك من خلال الترويج للكثير من الآراءالاقتصادية المضللة والخادعة، وتحديداً قي النظام الرأسمالي واقتصاد السوق اللذينلا يفوت "غالبريث" فرصة لانتقادهما على طول صفحات الكتاب، كونهما يعبران عن واقعالحياة الاقتصادية باستخدام ما يسميه بـ"الشعارات الطقوسية" المستنبطة من كتبالاقتصاد المدرسية.
ومن الصفحات الأولى في كتاب "أكاذيب الاقتصاد" ينتقد الكاتب النظامالرأسمالي بشدة، وبلا هوادة، ويقول إنه عندما أصبحت الرأسمالية بحكم واقعهاالتاريخي غير مقبولة تم تغيير اسمها إلى "اقتصاد السوق"، وهذه التسمية من وجهة نظرهعبارة عن تعبير أجوف وخاطئ ولا معنى له ومصطنع، لكنه بالوقت ذاته مسالم وغير مؤذللسمع، وقد تمت تلك العملية، أي التحايل على اسم الرأسمالية، لتخليص النظامالرأسمالي من ماضيه ومن علاقاته الاجتماعية وتناقضاتها ونقلها إلى حيز اقتصادي بحتقائم على أدبيات العرض والطلب والمنافسة والسعر لا أكثر ولا أقل.
وعلى المستوى الأيديولوجي فإن ذلك التحول في التسمية يعني رمي التحليلاتالماركسية للنظام الرأسمالي وراء الظهر والتخلص منها، فما هو موجود اليوم هو "اقتصاد سوق" وليس "نظام رأسمالي"، وبالتالي لن ينطبق التحليل الماركسي عليها،بالإضافة إلى أن أحد أهداف قلب التسمية من وجهة نظر "غالبريث" كانت للترويج من أنهلم يعد هناك من سلطة للرأسمالي الفرد أو للمنشأة في هذا الاقتصاد، بل إن السلطةأصبحت بيد السوق وحده، لكنه يرد على الفور بأن السوق الاستهلاكية تدار اليوم بمنتهىالحذق والذكاء من قبل رأسماليين أفراد، وتسيطر عليها منشآت محددة، إلا أن ذلك ما لايقال أبداً ولا يُكتب حتى في الكتب المدرسية، وبالتالي فإن الكذبة أمام الأعين ولاأحد يريد رؤيتها، بل يريد الجميع إخفاءها.
لا يتوانى "غالبريث" عن تفكيك الكذب الاقتصادي الذي يغلف نظرية "سيادةالمستهلك" في النظام الرأسمالي والتي تشكل أحد أركانه، إذ يعتقد بأن لا سيادةحقيقية لهذا المستهلك أبداً، فالمنتجون هم اللذين يقررون، ويحددون خياراتالمستهلكين دون إرادته بتأثير الدعاية والإعلان وإغراءات البيع، فيما تدعمهم بعضالنظريات الاقتصادية بذلك من خلال المعادلات الرياضية والرسوم البيانية والمنحنياتالتي تنص على أن خيارات المستهلك لا قرارات المنتجين هي التي ترسم منحنى الطلب،ويصل بالتالي إلى نتيجة مفادها أن الاقتناع كون المستهلك صاحب سيادة في اقتصادالسوق هو أحد أكبر الأكاذيب التي ضللت البصائر والعقول، وأن الحكمة التقليدية التييتداولها المنتجون فيما بينهم هي" لا تحاول أن تنتج أو تبيع قبل توجيه السوقوالهيمنة على خيارات المستهلك".
يعالج كتاب "أكاذيب الاقتصاد" العديد موضوعات أخرى متعددة منها ما يتعلق بالعملوتناقضاته في الرأسمالية وكيف تختفي تحته عمليات التفاوت الاجتماعي والاقتصاديفالعمل يدل على الإكراه وقلة الأجر المفروض على البعض فيما يدل على الهيبة والنفوذوبحبوحة الأجر للبعض الآخر، ومنها ما يتعلق بالإدارة البيروقراطية للشركاتالمساهمة، وكيفية اتخاذ القرارات داخلها، وغياب الشافية والرقابة العامة عنها،وسلطة المدراء العامين واجتماعات مجالس الإدارة التي أشبه ما تكون بـ"الاجتماعاتالكهنوتية" على حد تعبير الكاتب في حين أن ما يروج هو أن السلطة بيد حاملي الأسهمإلا أن لا سلطة فعلية لهؤلاء أبداً
وفي حديثه عن القطاع العام، والقطاع الخاص، وقطاع المال في الولايات المتحدةالأمريكية، يصل  "غالبريث" إلى اقتصاد الحرب، وبالتالي إلى المزيد من الأكاذيبالرائجة حول تلك القطاعات التي تكشفها الحروب، فنفقات الحروب الأمريكية لا تحددبشكل عام من قبل الحكومة بموضوعية ونزاهة، بل إن من يقرر ذلك هو القطاع الخاصممثلاً بشركات صناعة الأسلحة والمتكلمين السياسيين باسمها، وخاصة بعد زاول الحدودبين شركات القطاع الخاص والعام، وإمساك الشركات الخاصة بشرايين سلطة الدفاعوالموازنة الحربية وبالتالي بالسياسة الخارجية، أي أن الحروب الأمريكية في النهايةباتت تعكس سلطة المال فقط، مما دعا "غالبريث" للقول بحزن وأسى في نهاية كتابه أن "المذابح بالجملة تتوج ما تحققه الحضارة من تقدم".
ختم الاقتصادي "غالبريث" سبعين عاماً من حياته الاقتصادية النظرية والعمليةبكتابه "أكاذيب الاقتصاد"، ذلك الاقتصادي الذي قال عنه بول سامويلسون "إنه أهمالاقتصاديين الأمريكيين لغير الاقتصادين"، وصنفه استفتاء عالمي في العام 2006 علىأنه ثالث أهم الاقتصاديين في القرن العشرين بعد جون كينز، وجوزيف شومبتير، وكرمتهباريس بعقد حلقة نقاشية عام 2004 لعرض أفكاره ومناقشتها، هو ذاته الذي رحل في العام 2006 وهو يُقرّ بوجود فجوة كبيرة بين الأفكار والنظريات والمعتقدات التي تطرح للناسوبين الواقع الفعلي لها، وقد ترجم له إلى العربية "تاريخ الفكر الاقتصادي، الماضيصورة الحاضر"، و"الرأسمالية والاشتراكية والتعايش السلمي"، و"تشريح السلطة".
وكتاب "أكاذيب الاقتصاد" نقله إلى العربية الدكتور هشام متولي وهو اقتصاديسوري، وصدرت طبعته العربية عن دار طلاس عام 2007،  ويقع الكتاب في 110 صفحات منالقطع الصغير موزعة على 15 فصل.

                                                                                                                                                                                                      ايهم اسد

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.