تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

ناصر قنديل: أعيدوا حساباتكم.. سورية تعني ما تقول

 

المأزق الذي دخله الإسرائيليون مع هزائمهم المتكررة من انسحابهم القسري من جنوب لبنان عام 2000 إلى الانسحاب القسري من غزة عام 2005 ، أوصلهم إلى معادلة تقبل خسارة اللعب بالجغرافيا ورسم إستراتيجية تقف على قدم واحدة كان أرئيل شارون عنوانها، وهي القدرة على الردع المستمدة من إمكانيات التفوق العسكري في المواجهات النظامية التي قد تتعرض لها أو تخطط لها إسرائيل، وكل قوام إستراتيجية الردع هو القدرة على إيقاع أكبر قدر من الخسائر البشرية والمادية بالطرف العربي المقابل بما يفرض عليه الخضوع للمشيئة الإسرائيلية.

جاءت حرب تموز 2006 على لبنان أول اختبار جدي لهذه النظرية، وكانت النتيجة التي سجلها تقرير فينوغراد للهزيمة الإسرائيلية المدوية هي فقدان قدرة الردع، وخارج كل التنميق الكلامي لتجميل الهزيمة والتخفيف من وطأتها، توصل الإسرائيليون إلى معرفة أن التوازن الحقيقي في الحروب المقبلة، ليس توازن القدرة على إحداث الدمار بل توازن القدرة على تحمله، ومثله ليست القدرة على القتل بل القدرة على تحمل التضحيات، وثبت كما قال موشي أرينز في مؤتمر هرتزليا عام 2007 إن إسرائيل لم تعد جيشاً ومجتمعاً هي نفسها التي ولدت عام 1947 ، وإن مقابلها العربي، مقاتلا وشعبا لم يعد هو العربي نفسه الذي قابلته وقاتلته عام 1947 . ‏

حاولت إسرائيل تجاوز الاعتراف بأن التغيير إستراتيجي ولا قدرة على تجاوزه، فالتفتت إلى الجوانب التكتيكية في حرب لبنان وحاولت إصلاح ما ظنت أنه سبب الخلل، وذهبت إلى الاختبار في حرب غزة عام 2008، وكانت النتيجة أمام قدرة نارية أقل ومدى جغرافي أضيق وحيث لا يقابل الحصار الإسرائيلي إلا حصار عربي، وفشلت في تحويل قدرة الردع المفترضة إلى نصر سياسي، فصمد الفلسطينيون ومقاومتهم ،وعندما دقت ساعة العمل البري الواسع تذكر الإسرائيليون أن النصر في حربهم يستدعي التضحية بخسارة عدد من الجنود لا يتحمله جيش ومجتمع الاحتلال، وكانت الهزيمة المدوية الثانية تأكيدا لحقائق حاولوا إنكارها في هزيمتهم الأولى، وقوامها خلاصة أرينز أن الدنيا قد تغيرت وأن قواعد اللعبة قد تغيرت أيضاً . ‏

وصل اليمين المتطرف إلى الحكم في إسرائيل بعنوان الرغبة في التخلص من كابوس الاعتراف بهذا التغيير، والإصرار على قدرة الكيان على تجاوز محنته وتحويلها إلى أزمة عابرة بدلا من الإقرار بكونها مأزقاً إستراتيجياً، ووضعت الخطط للقبة الحديدية ومنع الصواريخ من بلوغ العمق الإسرائيلي في أي حرب مقبلة، ورصدت الموازنات بعشرات مليارات الدولارات، وجرى التفرغ لهيكلة قوى البر وتشكيلاتها المقاتلة معنويا وماديا، واكتشف الخبراء الإستراتيجيون أن الطريق مسدود لتغيير المعادلات، وأن التسلح على ضفة قوى المقاومة يتزايد، والحسابات السياسية الداخلية المحيطة سواء في لبنان أو فلسطين تتطور على إيقاع معادلات المنطقة المتراكمة، من قوة سورية وإيران وتعثر الولايات المتحدة والتطور النوعي في الموقف التركي والمصالحات العربية ـ العربية وتبلور شبكات أمان أقوى لقوى المقاومة، كما اكتشفوا أن الطريق إلى الحرب مع إيران فوق طاقة إسرائيل ومعها الولايات المتحدة رغم كل التهويل والتهديد، فتفتقت عبقريتهم عن معادلة للحل السحري والحل مفتاحه كلمة واحدة وهي سورية . ‏

الخطة هي تناوب القادة الإسرائيليين ومعهم جوقة دولية على التلويح بالسلام والتهديد بالحرب بوجه سورية بنظرية العصا والجزرة، انطلاقاً من قراءة تحليلية ناقصة، فسورية هي الرابط الجغرافي الوحيد والسياسي العملي لقوى المقاومة بعضها ببعضها الآخر من لبنان إلى فلسطين والعراق كما هي الرابط بينهم من جهة وبين إيران من جهة أخرى، وأن سورية هي الجهة الوحيدة التي يشكل التصالح معها أو إخضاعها أو ضربها الطريق الموصل لتغيير معادلات المنطقة، ولأن كل هذا صحيح توصل الإسرائيليون إلى الاستنتاج الخطأ، وهو أن الإغراء بتفاوض مباشر عن طريق فرنسا سيضع سورية أمام معادلة خسارة أحد الصديقين الفرنسي أو التركي بالتنافس على الأدوار، وأن الإيحاء بخطر الحرب من جهة وإغراء التفاوض من جهة مقابلة سيضع القيادة السورية المتنبهة كثيراً لخطط التنمية والبناء الاقتصادي في عنق الزجاجة . ‏

جاءت النتيجة أن سورية أعلنت على لسان الرئيس بشار الأسد ولم يبق مجال للاجتهاد، أن دور تركيا حصري في التفاوض غير المباشر وأن دور فرنسا مطلوب لكنه يأتي لاحقا في التفاوض المباشر، وأن التفاوض المباشر لا مكان له إلا بعد التسليم بعودة الجولان كاملاً غير منقوص، والتفاوض السري غير وارد على الإطلاق . ‏

انتقل الإسرائيليون إلى خطة بديلة، التهويل بالحرب وخطرها كمنصة لمخاطبة شارع قلق في مجتمعهم لم يعد يثق بقدرة الردع من جهة، ولا بصدقية قيادته التي منحها ثقته مقابل تغيير المعادلات القاسية التي حملتها الهزائم ، من جهة أخرى، وبالمقابل تؤسس التهديدات لفتح المجال لمنصة دبلوماسية تصرف النظر عن الدور التركي، وتعوم أدواراً أخرى لمنع التدهور نحو الحرب، وترتضي سورية بداعي التملص من المخاطر، هذا المسار. ‏

جاء الجواب السوري الرادع والحاسم والقوي والمكرر على أكثر من مستوى، بأن العبث الإسرائيلي سيؤدي إلى حرب شاملة وأن المدن الإسرائيلية ستكون ميدان هذه الحرب، وسيكتشف الإسرائيليون هذه المرة أن لعبتهم تافهة وضيقة الأفق، وأن سورية تدرك مصادر قوتها وعناصر هذه القوة، والسكوت عندها من فضة لكن الكلام من ذهب، كما تدرك معنى المعادلات الجديدة التي صنعتها وساهمت في صناعتها وتنميتها، والتي تشكل محور إستراتيجيتها منذ ربع قرن لبناء التوازن الإستراتيجي الذي اختل مع معاهدات كامب ديفيد، وعنوانها المقاومة، التي وضعها الرئيس بشار الأسد رمزا للشرق الأوسط الجديد الذي يولد من رحم الحروب الأخيرة في لبنان وفلسطين والعراق، وأن سورية التي قادت مرحلة إنهاء قدرة الردع الإسرائيلية بنقل التوازن من قدرة القتل والتدمير التي تملكها الجيوش إلى توازن القدرة على تحمل التضحيات التي تملكها الشعوب، باتت قادرة اليوم على دخول معادلة القدرة على نقل توازن الرعب الجديد إلى مرحلة جديدة، هي القدرة على الدمار نفسه الذي لن يكون في المدن العربية وحدها بل ستدفع ثمنه المدن الإسرائيلية أكثر، إذا غامر المغامرون بحرب جديد . ‏

يعرف الإسرائيليون اليوم أن لعبتهم الداخلية ومأزق قيادتهم مشكلتهم وحدهم وحلها ليس بالعنتريات ودور الزعران كما قال لهم الوزير وليد المعلم، كما باتوا يعرفون أن سورية لا يغريها تلويح ولا يخيفها تهديد وأن عليهم التعايش مع المعادلات الجديدة، والاختيار بين تنامي قدرات الشعوب والجيوش والمقاومة وصولا إلى مواجهة يخترعونها لكنهم سيدفعون ثمنها، أو ارتضاء البدل الواجب لتفادي الموت البطيء وقوامه حقوق لا تقبل التأجيل ولا التعديل .

فهم الإسرائيليون أم لم يفهموا ليس مهما بقدر ما هو مهم أن يفهم باقي العرب. ‏

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.