تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

قليل من الحياء.. وكثير من الفساد في الضفة

 المجتمع الفلسطيني، بحسابات بسيطة جداً، ليس مجتمعاً ملائكياً ولا يختلف فيه اثنان أيضاً على أن عرض القناة العاشرة الإسرائيلية لغيض بسيط من فيض هو خطر وخطر جداً يخفي فساداً أكبر مما يمكن تخيله.. لقد ذهب البعض من اليوم الأول، ودون انتظار لرؤية المشهد مكتملا، لانتقاد ونفي صحة ما عرض وصدم.. وتخوين واتهام بالعمالة لما يسمى «رجل استخبارات» من شرق القدس.. الاهتمام إذاً دار حول قذارة الفعل الذي قام به شبانة والشبهة من وراء عرض هذا الشريط الفاضح.

قبل الحديث عن المسؤول الفلسطيني الفاسد (ولا أقصد تحديداً من ظهرت صورته فقط) ثمة ما يثير الانتباه وما يدلل على مدى ما وصلت إليه الحالة الفلسطينية الرسمية في الفساد والإفساد. فرغم شكي المبني على تجربة على أرض الواقع بما يسمّى «الصحافة الحرة» في الأراضي الفلسطينية فقد جاءت ردود الفعل لتؤكد أن القلة القليلة قادرة على مواجهة حالة الغرق بأسئلة واقع فلسطيني غير صحي، تركز الجهد طوال الأعوام الماضية على صناعة أخرى لمجتمع غارق في التخريب المنهجي عبر شبكة واسعة من تقاطع المصالح.
ما يدفعني للحديث عن قصة «الصحافة الحرة» هو الانقياد الأعمى وراء الرواية «الرسمية» التي طرحها رموز السلطة الفلسطينية.. على الأقل في اليوم الأولى للكشف عن رأس جبل الجليد.. ثم في اليوم التالي وبعد أن أقلع هؤلاء عن رواية «فوتوشوب» والتلاعب بالصور وظهور المزيد من الوثائق وحين كنت أفحص ردات الفعل بدا المشهد مخزياً إلى حد بعيد.. فالرواية «لا جديد فيها ومعروفة منذ عام ونصف العام» (...)..
إذاً، حين كنت شخصياً أشارك بالكثير من ورش العمل (بحكم عملي في مؤسسة أكاديمية) التي نظمها الاتحاد الدولي للصحفيين عن أخلاقيات المهنة وعن الصحافة الاستقصائية وصحافة المحاسبة.. والتي كان يشارك فيها صحفيون ومسؤولو وسائل إعلام.. كنت أطرح أسئلة حول حقيقة حرية الصحافة وتعدديتها (وليس كثرتها).
فإذا كانت هذه الرواية المتعلقة بالفساد المالي، وليس بقصة الاستغلال الجنسي فحسب، معروفة منذ أكثر من عام ونصف العام.. فما الفائدة من هذا الإعلان ما دامت قضايا الفساد مناطق محظورة بفعل ما هو أخطر من فساد سياسي وأمني سأطرحه لاحقاً؟
زميلان احترمتهما في رام اللـه بسبب جرأتهما على قول الحقيقة.. لكن من المؤسف جداً أن واحدا منهما على الأقل يجد نفسه (رغم أنه أستاذ جامعي) مضطراً للكتابة في مدونة خاصة به بفعل عملية قصقصة وتقليم أظفار «السلطة الرابعة». زميلة ثالثة وجدت كل أبواب الصحافة مغلقة بوجهها حين تناولت الاعتقال السياسي في الضفة الغربية. أحد رؤساء التحرير (في صحيفة فلسطينية تصدر برام اللـه) سألته في ندوة عامة عن عدم شجاعة الصحافة بالتطرق إلى قضايا تحوم حولها شبهة فساد وتورط مسؤولين رسميين فيها.. كالعادة لا إجابات ولف ودوران.. قال لي صحفي: أنت تسأل أسئلة وكأننا في السويد.. ثم أضاف: ألا ترى أن الصحافة العربية كلها على الطريق نفسه؟.. بالطبع لا، والأكثر أهمية بالموضوع أن الوضع الفلسطيني وضع يبحث عن نافذة وطريقة للتحرر من الاحتلال فكيف يحمل كل هذه المحظورات المتعلقة بالفساد والتعاطي مع الفساد الذي ينخر الطبقة السياسية؟
حين عتب البعض على الكشف عن طريق القناة العاشرة الصهيونية لم يركزوا كثيراً عما كانوا سيفعلون بطاقم الجزيرة ومبناه في رام اللـه لو جرى رواية القصة عن طريقهم.. وما دامت المحسوبية هي التي تهيمن فهذا يعني أن قدرة الصحافة الفلسطينية تكون محدودة على الطرح الحر والجريء. ولنفكر قليلاً بالاقتباس التالي: ودعا أمين عام الرئاسة في ختام حديثه وسائل الإعلام وأجهزته إلى عدم الوقوع في الأحابيل التي ينصبها بعض أجهزة الإعلام الإسرائيلية الموجه من قبل الحكومة اليمينية في إسرائيل لتحقيق أهداف وأغراض مشبوهة... إذ هذه هي وظيفة الإعلام الفلسطيني في مثل هذه القضايا.. ألا تقع في «الأحابيل».
قلت ما أثار انتباهي في التعاطي مع هذه القضية التي فجرها فهمي شبانة أن الصحافة والصحفيين في الضفة يؤكدون معرفتهم بالرواية منذ زمن.. لكن أحداً لم يسأل قبل تخوين الرجل، علماً أنه موظف رسمي، عن موانع التعاطي مع الإثباتات الكثيرة حول الفساد.. ولماذا لا يجرؤ أحد على كشف تشعب قضية منصة استخراج الغاز في بحر غزة.. وشركات الهواتف.. وفساد مالي وإداري في السلطة من المسؤولين وأبنائهم؟
لننتبه إلى سؤال مهم: حين يأتي بعض رجال السلطة من الخارج وبعضهم يملك بضعة آلاف من الدولارات وبعد فترة وجيزة يتحولون إلى ملاك ملايين وقصور وأعمال تجارية.. فلا بد من السؤال إذا ما كان هؤلاء ثوريين أم فاسدين باحثين عن الثروة والمصالح الذاتية.
وبما أنني ذكرت آنفاً شيئاً عن فساد آخر، يعتبر الأب الروحي لكل أنواع الفساد، فهو الفساد السياسي ومن ثم الأمني.. لنمعن في اقتباس من وكالة «معاً» ودون تدخل بالأخطاء اللغوية: وعلق أمين حركة فتح إقليم رام اللـه رائد رضوان على تصريحات فهمي شبانة لتلفزيون القناة العاشرة الإسرائيلية أنه لم يكن غريباً مثل هذه التصريحات بهذا الوقت من قبل الاحتلال الإسرائيلي بهدف تصعيد الموقف، ووضع السلطة بموقف محرج، ونحن نعلم أن المخابرات الإسرائيلية قامت مؤخراً بزيارة خمس أو ست محافظات بالوطن، وعقدة اجتماعات مع أشخاص مطلوبين ومشبوهين، والعملية برمتها هي جزء من مخطط إسرائيلي للهجوم على الرئيس محمود عباس بهدف إضعافه وليس المستهدف الدكتور رفيق الحسيني» (10/02/201).
أولاً، لنلاحظ الادعاء بأن التصريحات «إسرائيلية».. أي إن الإمعان في الطبطبة على الأخطاء لا يجد حرجاً في تكرار الأسطوانة المشروخة عن الضغوط من أجل العودة إلى التفاوض! فهل نفهم بأن شبانة كان عميلاً جرى استخدامه للضغط؟
ثانياً، وبكل بساطة الادعاء بقيام المخابرات الإسرائيلية بزيارة خمس أو ست محافظات والاجتماع مع أشخاص مطلوبين ومشبوهين! هو مع كل أسف دليل على أصحابه الذين تعلموا في مدرسة «مات الملك عاش الملك»، فكيف هم مطلوبون ومشبوهون وتزورهم المخابرات الإسرائيلية؟ هل يعني أن للعملاء مكانة ممنوعاً المس بها، بعد أن كانت الانتفاضتان كشفتهم وحاصرتهم؟ وهل هذا يعني أنه لا فساد نهائياً، أم إن من يعطي الفرصة لمثل هذه الفضائح هي الممارسات الفاسدة؟
لا شك عندي وعند الكثيرين ممن يراقبون هذا المشهد الفلسطيني في أن ما يسمى التنسيق الأمني، وليس الوظيفي الذي يذكر بوظيفة روابط القرى في السبعينيات، مدخل من مداخل تفكيك كل المناعة التي عاشها المجتمع الفلسطيني. فإذا كان رجل الأمن العادي يرى في قيادته السياسية تقبلاً مع من يفترض أنه عدو محتل فلنا أن نتخيل سبب تجول المخابرات الإسرائيلية في «محافظات الوطن».. والاجتماع بمطلوبين ومشبوهين.
ذات مرة سأل بسام أبو شريف بعض رجال الأمن الواقفين عند ضريح الرئيس عرفات في المقاطعة: هل تعرفون من صلاح خلف أبو إياد؟ وهل تعرفون من خليل الوزير أبو جهاد؟ وأسئلة عن شخصيات قيادية استشهدت فلما كان الجواب بالنفي.. سألهم هل تعرفون من ياسر عرفات؟ جاءه الجواب: نعم هو مدفون هنا!.. وإذا أمعنا النظر فيما قاله صاحب الفيلم عن قيادته الحالية في المقاطعة وما قاله عن ياسر عرفات فلتصدقوا بأن هؤلاء يتصرفون على طريقة «الدوغري» في مسلسل دريد لحام تماماً!
تلك الحادثة تؤشر إلى خطورة إنتاج حالة من الإفساد، لا تتعلق فقط بالنهب والثراء غير المشروع، بالذين يعتبرون أنفسهم مؤتمنين على «المشروع الوطني».. فحين يكون لديك مشروع أمني يقول إن العدو ليس المحتل بل «الظلاميون».. وحين نقرأ «فياض يدين حادثة طعن ومقتل إسرائيلي جنوب نابلس» ويخرج سلام فياض بعد هرتسيليا ليخبر شعبه، بعد أن حول الجندي على «مجرد إسرائيلي» رغم استشهاد منفذ العملية واعتقال كل أفراد عائلته لتدمير منزله، قائلاً: «إن هذا الحادث مدان من قبلنا، وهو يتعارض مع المصالح الوطنية الفلسطينية، ومع الجهود التي تبذلها السلطة الوطنية، وكذلك مع الالتزامات التي أخذتها على عاتقها».
أشك في قدرة الصحافة الفلسطينية، ليس تشكيكاً في قدرات الصحفيين الفلسطينيين ومهنيتهم العالية، بطرق أبواب الفساد السياسي من خلال صحافة استقصائية حقيقية.. وشخصياً حين كنت أسأل عن دور محمد دحلان المستقبلي كان البعض يجد في الهمس طريقة للإجابة بأنه «رجل المرحلة القادمة». الصحافة الإلكترونية والمنتديات الفلسطينية إن طرحت أسئلة من هذا الحجم عن فساد الطبقة السياسية وتكوينها أبواقاً إعلامية ملاصقة لها فإن تلك المواقع والمنتديات بلا أدنى شك تتحول إلى متهمة بـ«العمالة لطهران ودمشق».. ليس للإسرائيليين أبداً.. ولما ليس للإسرائيليين لا يحتاج إلى الكثير من التفكير لمعرفة السبب!
الصراعات الداخلية في السلطة والاستقطاب الحاد في فتح والغضب المخفي لا يتحدث عنه أحد في «الصحافة الحرة»، رغم أن المسألة تخص مستقبل شعب بأكمله.. ربما يكون بعض الحياء الذي يظهره زملاؤنا الموظفون في مؤسسات إعلامية وأكاديمية لها علاقة بالصحافة (ولدينا في هذا المجال الكثير مما يمكن كشفه لاحقاً) يساهم من حيث يدري أو لا يدري بدحرجة كرة الثلج التي ستكشف كوارث كبيرة ما عاد للطبطبة مكان لها.. ولا توسط البعض للتخفيف من وطأة هذا الفساد على حين هذا الفساد السياسي يؤسس لشيء لا يمكن لمن يعرف كواليس صناعة القرار الفلسطيني أن يتجاهله.. قد يجدون كبش فداء كالعادة.. لكن عقارب الساعة لا يمكن إيقافها أو إعادتها للخلف.. وحتى لو ظلت السلطة الرابعة بين الفلسطينيين مغيبة فلهؤلاء طرقهم ووسائلهم التي ستفاجئنا في قادم الأيام بمزيد من السقوط والتدهور الحقيقي.. وإن بدت القوى السياسية التي تدعي معارضة سلطة أوسلو هي غير ذلك فللشعب الفلسطيني قراءته الأخرى التي لن تكون على الصراط المستقيم لسلطة يتهامس الناس أنها أسوأ من سلطة روابط القرى.
  

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.