تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

محور الشرق بين الردع الإستراتيجي وفرص السلام

 

عندما وصل وليم بيرنز إلى دمشق في تشرين الثاني 2002 حاملا مشروع الحرب على العراق لمطالبة سورية بالانضمام إلى التحالف الذي تقوده واشنطن لهذا الغرض، سمع من الرئيس بشار الأسد سؤالاً حول طبيعة المشروع السياسي الذي تحمله واشنطن للمنطقة، وإذا ما كان ثمة رؤية أميركية لتحقيق السلام في المنطقة، على خلفية حل شامل وعادل للصراع العربي ـ الإسرائيلي، ينطلق من القرارات الدولية، وكان المفصل الإستراتيجي في الخلاف الذي سرعان ما تحول بعد الاحتلال الأميركي للعراق إلى حرب معلنة على سورية، هو مقاربة أميركية تنطلق من تهميش مكانة الصراع العربي ـ الإسرائيلي في أولويات تحقيق الاستقرار في المنطقة، وبالتالي وضع أولويات تتحرك حسب قراءة عناصر القوة الأميركية، وبالمقابل مقاربة سورية ترى مفتاح الاستقرار في المنطقة بانخراط أميركي جاد وصادق في حل عادل ودائم وشامل للصراع العربي ـ الإسرائيلي، يغني واشنطن عن التفكير بالحروب، لأن تحولها إلى شريك نزيه ومقبول من الشارع العربي، كفيل بحل أغلب مشاكلها في المنطقة، بينما الرهان على القوة التي تملكها واشنطن والتي لا يجادل أحد في قدرتها على إلحاق الخراب والدمار حيث تشاء، لن يجلب لأمريكا وشعوب المنطقة والعلاقة بين الفريقين إلا المزيد من الأزمات.
 
رحل بيرنز ذلك اليوم عن دمشق ووقعت الحرب، وجاء كولن باول حاملا دفتر الشروط الأميركي لإبقاء سورية خارج دائرة الاستهداف الأميركي، وكان الجواب الذي سمعه مشابها لما سمعه بيرنز من الرئيس بشار الأسد، سورية تعرف حجم قدرات الولايات المتحدة، لكنها تدرك محدودية القوة في صناعة السياسة، وهي لذلك لا تسعى للمواجهة مع واشنطن لكنها لا تخاف التهديدات، وتنصح بالعودة إلى السياسة ومحورها الصراع العربي ـ الإسرائيلي. ‏
 
تدهورت العلاقات السورية ـ الأميركية وتم سحب السفيرة الأميركية من دمشق، وجرى تأليب حلف عربي دولي بوجه سورية ونشطت الضغوط والتهديدات لإخضاع سورية، ووقعت الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 وبعدها الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2008، وفي الحربين لم يكن خافيا حجم الاستهداف لسورية وموقفها من خيار المقاومة، كما لم يكن خافيا وقوف الولايات المتحدة الأميركية وراء قرارات الحرب. ‏
 
دار الزمان دورة كاملة وبدأ التسليم الأميركي بمحدودية القوة في صناعة السياسة، وبدا أن ثمة قناعة أميركية تتبلور بأولوية حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي في مقاربة قضية الاستقرار في المنطقة، ومع وصول إدارة الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض تصاعد الكثير من المواقف والتحليلات التي تبشر بهذا التغيير، وهو الشعار الذي اتخذته حملة أوباما الانتخابية سواء في السياسات الداخلية أو الخارجية. ‏
 
بدء التطبيع في العلاقات مع سورية مع بدء تفكك الحلف الناشئ بوجهها، وظهرت العلاقة السورية ـ التركية كرأس جبل الجليد يعلن فشل محاولات عزل سورية، وكرت المسبحة أوروبياً وعربيا وصولا إلى عودة السفير الأميركي إلى دمشق. ‏
 
لكن يبدو أن شيئاً في السياسة لم يتغير، لا تزال قناعة واشنطن أن صناعة الأولويات أمر إرادي ويمكن لأي إدارة أميركية أن تعيد ترتيبه على هوى مصالحها، فبدلا من المواجهة مع العراق يمكن وضع المواجهة مع إيران، والعودة إلى تخيير سورية بين الانضمام إلى سياسات واشنطن او معاداتها. ومرة أخرى على قاعدة تهميش الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فواشنطن تريد شبكة أمان لأزمتها في العراق، من سورية وإيران، وتريد تخفيض درجة التوتر بين حركات المقاومة وإسرائيل، من سورية وإيران أيضا، وتريد تفاوضا مع إيران حول ملفها النووي ومساندة لهذا التفاوض، والبديهي أن المعني هنا إيران ثم سورية، لكنها تريد من سورية أن تقطع صلاتها بحركات المقاومة وإيران في ذات الوقت، ومن دون أن تكون لدى واشنطن اي رؤية لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي تعرضها على سورية لتكون الأرضية السياسية لأي تفاوض سوري ـ أميركي، تقدم سورية خلاصته لحركات المقاومة وسائر الأطراف العربية والإسلامية ومن ضمنها إيران. ‏
 
مرة أخرى واشنطن لا تقرأ وإن قرأت لا تفهم، وكل الذي تغير أن التهديدات كانت أميركية والنصائح إسرائيلية فباتت التهديدات إسرائيلية والنصائح أميركية. أما سورية التي اختبرت صحة خياراتها فقد تغيرت وسائلها ولم تتغير مقاربتها، أولوية الاستقرار في المنطقة لا تزال المبادرة لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والتهديدات لا تغير ثوابتها، لكن هذه المرة هي قادرة على رد التهديدات بالردع الإستراتيجي، بعد حروب منتصرة خاضتها حركات المقاومة بدعم من سورية وإيران، وتشكل على خلفيتها محور الشرق بدلا من التسمية المقيتة التي استخدمتها واشنطن لمحور الشر. ‏
 
التلاقي السوري ـ الإيراني لإعلان محور الشرق وقدرته على الردع الإستراتيجي بحضور وشراكة قوى المقاومة، يقول إن الحرب ليست طريقا لصناعة السياسة لكنها هذه المرة لن تجلب الخراب على ضفة واحدة في حال وقوعها، وإن طريق واشنطن لصناعة السلام لا يزال مفتوحا. ‏
 
وضع حد للعربدة الإسرائيلية لن يكون ثمنا يبحث عنه العرب وفي مقدمتهم سورية لتفادي خطر الحرب مقابل الانخراط في طلبات واشنطن، فالردع الإستراتيجي على يد قوى محور الشرق كفيل بلجم هذه العربدة، والمطلوب من واشنطن فهم المتغيرات والإقدام خارج إطار الروزنامة الإسرائيلية لمقاربة الصراع المركزي في المنطقة ومفتاح الاستقرار فيها، وهو الصراع العربي ـ الإسرائيلي. ‏
 
عندما تمتلك واشنطن شجاعة القول إن عودة الحقوق العربية بما فيها مصير القدس وضمان حق العودة للاجئين، تشكل الأساس الصالح لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي وبالتالي لضمان الاستقرار في المنطقة، ستكتشف أن محور الشرق بقواه الممانعة والمقاومة قادر على التعامل مع السياسة بمثل قدرته على التعامل مع القوة، وأن محاكمة النيات لتقسيم هذا المحور بين قوى تريد السلام وقوى لا تريده، ليست إلا فرضيات أيديولوجية مبنية على تبرير العجز الأميركي عن صناعة السلام. ‏
 
محور الشرق الذي هزم المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي في ساحات الحرب، ويمارس الردع الإستراتيجي لمنع المزيد من المغامرات، يجعل فرص السلام أقرب إذا استطاعت واشنطن فهم المنطقة ومتغيراتها، وفهمت أكثر أن سر فشلها العميق في المنطقة هو تطابق سياستها وبالتالي صورتها في المنطقة مع السياسات الإسرائيلية، وبالتالي الصورة التي لا تحمل إلا ذاكرة الإجرام والقتل والعدوان. ‏
 
هل تُحسن واشنطن التمييز بين محور الشر ومحور الشرق، وتعرف أن الفارق بينهما يختزنه حرف لا تتضمنه اللغات ذات الجذر اللاتيني، وتمتلئ به اللغات ذات الجذور الشرقية، وهو واحد من الحروف الصوتية التي تتميز بها اللغة العربية من القاف إلى الضاد، وما حولهما وما بينهما، فتدرك أن عليها أن تفهم لغة المنطقة، والأفضل أن تُحسن التكلم بها، كي تحفظ لها دوراً في حل مشاكلها. ‏
 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.