تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

انسي الحاج يكتب عن أسمهان وسلاف فواخرجي

للمرّة الثالثة أشاهد مسلسل «أسمهان» الذي أخرجه التونسي شوقي الماجري. من السيناريو إلى التصوير إلى التمثيل يعبق الجوّ بثلاثة أنواعٍ من السحر: مصر، جبل الدروز، وأسمهان.
مصر ذلك العهد، خصوصاً مصر ملوك الفنّ من القصبجي وزكريا أحمد إلى عبد الوهاب وبديعة مصابني، وطبعاً أمّ كلثوم. مصر الوطن الأمثل لجميع «الغرباء». إذا أردنا مرادفاً لمصر فلعلّه الحنان. وإلى نيل الحنان هذا حمل فريد الأطرش ينابيع عواطف تجلّت في ألحانٍ ليس بينها لحنٌ واحدٌ فاشل.
أمّا جبل العرب فكل ما فيه يثير فضول مَن لا يعرفه: عادات الأهالي وتقاليدهم ولهجتهم ورجولة رجاله وجمال نسائه. لفظةُ درزيّ وحدها تستأثر فوراً باهتمام غير الدرزي. لا أعرف طائفة استحوذت على شغف الباحثين مثل الطائفة الدرزية، وكلّما ازدادت أمامهم الأبواب انغلاقاً ازدادوا شغفاً. ومعظم هؤلاء من الأوروبيين. أعرف واحداً منهم، هو الكاتب فيرجيل جورجيو، ابن رومانيا الأرثوذكسي الذي أصبح بطريركاً، لمّا زار لبنان في السبعينات من القرن الماضي أصرّ، رغم أجواء الحرب الأهليّة، على الذهاب إلى الشوف. وفعل، يرافقه الخوري يومها والمونسنيور اليوم منصور لبكي. يروي الثاني، وقد أكّد الأول روايته، أنه فيما كانت السيّارة تجتاز بهما القرى صعوداً في اتجاه بعقلين، أبصر جورجيو شيخاً أبيض اللحية معمّماً يَعْبر الطريق، فسأل لبكي مَن يكون، فأجابه: شيخٌ درزيّ. عندئذٍ أوقف جورجيو السيّارة وترجّل مسرعاً نحو الشيخ الذي توقّف مدهوشاً بمنظر السائح المرتدي جبّة المطران، وما كان من المطران جورجيو إلّا أن ركع أمام الشيخ الدرزي وأخذ يده وقبّلها.
قال المطران للكاهن إنه لم يصدّق عينيه، فهذه أوّل مرّة يشاهد فيها درزيّاً. وفوق هذا شيخاً معمّماً، والأكثر من ذلك في بلاد الشوف، وأنه يعتبر هذه اللحظة من أهمّ لحظات حياته. فلطالما حلم بمثل هذا المشهد، ولطالما سرّح فكره في أهل هذه الطائفة التي يزخر تاريخها بالأسرار والتضحيات والأمجاد والخصوصيّات.
بقيت أسمهان. وقد وضعتُها في الدرجة الثالثة والحقّ أنّها السبب الأوّل. أسمهان آمال الأطرش وأسمهان سلاف فواخرجي. الأولى تمسككَ من أحشاء روحك والثانية من شغاف قلبك. أضفتْ الثانية على الأولى شفافية ومنحتْ الثانيةُ الأولى غموضاً واضطراباً. عذابات أسمهان المصلوبة بين محيطها وفنّها أنارها توهّجُ سلاف وسحرُ جمالها إنارة القمر البدر للبحر. أسمهان وسلاف ذهبان، ذَهَب الدم وذهب النار. لا أعرف إذا كانت أسمهان قد أوتيتْ الضحكة الطفوليّة التي تَهشّ لك في عيني سلاف، وليتها أوتيت، لما كان قد قسا عليها شيء.
سرّ المسلسل هو أسمهان، وللدقّة، هو سلاف فواخرجي. هذا الوجه الفتّان هو الوجه الذي كان سيكون لأسمهان لو لم يتحامل عليها دهرها. مثل صوتها كان لا بد له من وجهٍ بفَرَحِ وجهِ سلاف الفائح بعطر الحياة. لقد عكس هذا الوجه معاناة أسمهان كما تعكس النشوةُ القهرَ حين يتكدّر صفوها وكما تعكس السماءُ الشتاء حين تتلبّد بالغيم. من منتهى الرهافة إلى منتهى الشفافية. تداعيات النعمة واللعنة في صورة بلغت من العذوبة حدّ إضفاء الجاذبيّة حتّى على لحظة الموت.
يؤخذ النمط المسرحي على بعض المواقف. الاحتفاليّة الجامدة والمبالغ بها لدى بعض الممثلين. ثمّة تكرارات. ثمّة توكيدات كان يمكن تلافيها والاكتفاء بالتلميح. يؤخذ على الأغاني قَطْعها في أوّلها. يمكن إيراد ملاحظات سلبيّة أخرى، لكنّها تغرق في الجوّ العام المُسْكِر والغني بالتثقيف.
سبق أن كتبت مرّتين عن هذا المسلسل. لا مناسبة الآن للعودة إليه غير إدمانه، والحديث عن الاتفاق مع سلاف فواخرجي على بطولة مسلسل عن كليوباترا. رجاءً أيّها الكاتب، أيّها المخرج، أيّها المصوّر، رجاءً أيّها المحيطون جميعاً بهذه الموهبة: لا تسمحوا بحصول شيء يُنزلها من حيث ارتفعتْ. رجاءٌ إليكِ يا سيّدتي: لن نناشدك أن تكوني في مستوى كيلوباترا، ولا في مستوى إليزابيت تايلور التي جسّدت شخصيّتها للسينما، بل فقط في مستوى وجهكِ. إذا فعلتِ، وأنتِ لفاعلة، فسيغتني تعرشكِ بتاج آخر.

 

                                                               انسي الحاج

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.