في الذاكرة السورية وعبر تاريخها الغني والعريق والثري عديد من الشخصيات المتميزة والمبدعة التي تجاوز تأثيرها الفكري والثقافي والسياسي أرض بلاد الشام والعرب لتصل إلى العالمية، وبالإضافة إلى الآثار غير المادية التي خلفتها تلك الشخصيات العبقرية، فإنها خلفت وراءها آثاراً مادية وعمرانية، سواء أكانت في الصروح التي شيدتها أو القبور التي احتوت رفاتها، أو البيوت التي سكنتها.
تم مؤخراً تحديد مكان البيت الذي سكنه أبو الطيب المتنبي (ولد 915 – قتل 965م)، الشاعر الفذ ومالئ الدنيا وشاغل الناس، في حلب أبان إقامته في بلاط الأمير سيف الدولة الحمداني التغلبي قبل أكثر من ألف عام ولمدة عشر سنوات ما بين عامي 948 – 957م بعد سلسلة من الأبحاث التاريخية المكثفة التي قام بها عدد كبير من الباحثين الحلبيين على رأسهم الباحث التاريخي الصديق الاستاذ «محمد قجة» رئيس جميعة العاديات النشطة والفاعلة في حلب، ومراجعة للوثائق والكتب التي تؤرخ لتلك الفترة ومقارنتها على أرض الواقع والتطورات التي حصلت على البنية العمرانية لمدينة حلب القديمة.
استعان الباحثون في العثور على منزل المتنبي بكتابين فقدا وتم العثور على نسخ منهما في الهند هما: «بغية الطلب في تاريخ حلب» و«زبدة الحلب من تاريخ حلب»، لمؤرخ حلب في العصر الأيوبي كمال الدين بن العديم، حيث يشير فيهما ابن العديم إلى «أن المتنبي عندما أقام في حلب عام 337 (948م) للهجرة منحه سيف الدولة بيتاً بجوار بيوتنا في منطقة أدوار بني كسرى» وقد تم مطابقة اسم هذه المنطقة التاريخية بالمنطقة المعروفة اليوم بمنطقة خان الوزير في مدينة حلب القديمة بجوار قلعتها الشهيرة، وتم تحديد بيت المتنبي بأنه مركز الإراءة الواقع في حي «سويقة علي» وراء «خان الوزير» في قلب المدينة القديمة.
تعرض بيت المتنبي في حلب إلى العديد من التغيرات عبر التاريخ الطويل، فبعد مغادرة المتنبي لحلب بفترة وجيزة تعرض المنزل للهدم أثناء الغزو البيزنطي لمدينة حلب أيام سعد الدولة ابن سيف الدولة الحمداني التغلبي، ومن ثم أعيد بناؤه من قبل الأمير السلجوقي «كمشتكين» الذي حوله إلى (خانقاه) تحمل اسمه، والخانقاه هي كلمة باللغة التركية القديمة تعني مضافة مجانية وملجأ للفقراء والغرباء التي تقطعت بهم السبل، بقي البيت على هذه الحال طوال الفترة الزنكية والأيوبية، قبل أن يتعرض للدمار مرة أخرى على يد القائد المغولي هولاكو بعد احتلاله لحلب عام 1260م، وبعد أن نجح المماليك بصد الغزو المغولي في معركة عين جالوت وتحرير حلب من أيديهم، قام أحد احد الأمراء المماليك بإعادة بناء البيت وحوله إلى منزل خاص به وقام بعد وفاته بوقفه ليكون مدرسة عرفت بالمدرسة الصلاحية.
ولم تتوقف رحلة الخراب وإعادة الإعمار لبيت المتنبي عند هذا الحد، فتعرض المنزل للدمار مرة أخرى عام 1400م خلال تدمير القائد التتري تيمورلنك لحلب عام 1400 م، وبقي على هذه الحال قرابة قرن من الزمان قبل أن يعيد آخر نواب السلطنة المملوكية في حلب خاير بك بناء المدرسة الصلاحية في بداية القرن السادس عشر، لكن بعد أن اقتطع جزءاً منها لبناء خان لا يزال يحمل اسمه إلى اليوم، في حين ظلت المدرسة الصلاحية طوال العهد العثماني تستخدم لتدريس العلوم الدينية.
وجاء الدمار الأخير لبيت المتنبي على يد الطبيعة حين تهدمت المدرسة الصلاحية خلال زلزال حلب عام 1822، ليقوم أحد وجهاء حلب «بهاء الدين القدسي» بترميمها وأصبحت تحمل إضافة لاسمها الأصلي مدرسة بهاء الدين، وبعد أن توقف التدريس في هذه المدرسة تم تحويل المكان حديثاً إلى مركز للقاء الأسري للأطفال الذين انفصل ذويهم.
لقد اعتادت شعوب العالم – وما تزال - أن تكرم شخصياتها التاريخية البارزة بأكثر من وسيلة، سواء بالتعريف ونشر تراثهم الفكري والإبداعي، وبالمناسبة فقد قام بترجمة ديوان المتنبي إلى اللغة الفرنسية رئيس وزراء فرنسا السابق «دومينيك دو فيليبان»، أو بالحفاظ على آثارهم الشخصية المادية التي تحمل شيئاً من ذكراهم، فيمكنك اليوم زيارة بيت شكسبير بأنكلترا، أو تزور المنزل الذي عاش ومات فيه بوشكين في روسيا، وبيت طاغور في الهند، كما يمكنك أن تقف على قبور عظماء فرنسا في البانثنيون في باريس... ونأمل بعد أن تم تحديد مكان بيت المتنبي في حلب أن تتضافر جهود وزارة الثقافة وبلدية حلب والهيئات المختصة كي يكون باستطاعة جميع محبي ومعجبي شاعرنا الكبير المتنبي زيارته وهو القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
بعد أن يتم ترميمه وتحويله إلى متحف ومركز يليق به وبمدينة حلب الشهباء التاريخية العريقة وبالأثر الكبير الذي لعبته حلب والمتنبي في الحضارة العربية والإسلامية وتفاعلها ورفدها للحضارة العالمية.
