تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الشجرة الهرمة تعرّت من أوراقها

 

يكتبها: حنا مينه
قذى في العين أم في العين عوّارُ
أم ذرّفَتْ إذ خَلتْ من أهلها الدارُ؟ ‏
يقول (الجامعة) في سفره: (باطل الأباطيل باطل, الكل باطل, الكل قبض الريح) وأجيبه: ليس من باطل إلا أنت, ففي مقولة (نفي النفي) الفلسفية الحياة إلى بقاء, ونحن, أحبّاء الحياة, إلى بقاء, لأننا شربنا, مع حليب أمهاتنا, هبوة العزم, وتعلمنا, معه أيضاً, أن من كانت قدماه ثابتتين في أرضه, لا يقتلع كرأس اللفت, وفي سورية الحبيبة هبوات عزم, على مدى تاريخها, كنّست كل مستعمر, وكل غازٍ, وكل طامعٍ, وكل دخيل, وكل ضاغط, من يمين أو شمال, وذرت قشورهم مع الريح, لأنها والتاريخ شاهد, ساقت دائماً الريح أمامها, ولم تتوقف حين توقفت الريح, بل دفعتها إلى أمام, وإلى أمام دائماً, وسخرتها لما تريد, عنوة واقتداراً, وفي أذنيها رنين أجراس النصر, عازفة (مارش) (جلونا الفاتحين فلا غدوًّا نرى للفاتحين ولا رواحا) والزغاريد فقد جنّ الإباء (من نعميات الله هذه الكبرياء!). ‏
لكن صخراً تأتم الهداة به (كأنه علم في رأسه نار) وهذه النار لم تحل بيننا وبين تذراف الدموع, على الذين مضوا هذا العام, واحداً بعد واحد بعد واحد, وكان دورنا, وأسفاه أن نرشق العطر على جوانب عربة الموت, وفي وداع الذين كان في ودنا (أن يودعنا صفو الحياة وألا نودعهم!).
 
(اللهم إنا لا نسألك رد القضاء بل نسألك اللطف به). ‏
وفي لطفك المقدور كان لكل أجل كتاب (والعيون التي ذرفت) لم يكن فيها قذى, ولا عوار (بل ذرفت إذ خلت من أهلها الدار) وكان دورنا, نحن الأحياء الباقون, أن نشيّع عزيزاً لنتفرّغ لتشييع عزيز, وأن نكفكف دمعاً من شيمته الكبر, لا عندما يضوينا الليل, بل في رائعة النهار حينا, أو حلكة الدجى أحياناً, راشقين في كل حين, رشة عطر, على جوانب النعوش التي تكفلت بنقل من فيها إلى فيء سدرة المنتهى, حيث الهناءة إلى جوار الملأ الأعلى, كأن الراحلين حمامات زرقاء, تلتمس الراحة في مطاوي السحب البيض, أو بين رقائقها وهي تنداح في صفوة النور أو أحداق الدجنّة, ونحن نردد والأكفّ مبسوطة (يا دارجلين في الخلود ضميركم, صلّت عليكم الرفقة الأبرار). ‏
أول زيارة وداع, في كازينو اللاذقية, كانت للشاعر الجميل وجهاً وقافية, علي الجندي, ابتسم لي وقال وهو على كرسي نقال: أراك بخير يا رفيق الصبا والدرب الطويل ثم خرج كما دخل, خفيفاً كالنسمة, ناحلاً إلى حد العظم. ‏
طرت من اللاذقية مسرعاً إلى دمشق, فأنا على موعد مع أبي أحمد عبد الرحمن الخليفاوي, فلما فتحت الجريدة صعقت (بعد عصر اليوم شيع الخليفاوي إلى مثواه الأخير) مسحت دموعي لأرد على الهاتف, فإذا الخبر, الخبر الموجع: الطبيب الإنساني والمناضل المتفاني (منصف الموتى من الأحياء نبيه رشيدات دخل في /الكوما/) أسرعت إلى حيث هو، فإذا المنية تسبقني، وفي الليالي السابقة أو اللاحقة، كنت في عزاء جبران كورية الذي ينام في سريرتي, وبعدها بأيام فجعت بأعز الأحباء، وأنبل الأطباء، المرحوم عيسى سلوم.. ‏
و من بعد!؟ ياحنا (يا قارئ الأوراد على الالحاد) كفاك نحيباً، ونعيباً، لا تتذكر العبقري الكبير الكبير محمد الماغوط، ولا المبدع اللامع عبد السلام العجيلي، والآخرين في دمشق وحمص والسويداء، إنهم سبقوك وإنك بعد أسبوع ستكون ملقى على سرير المرض في المستشفى الفرنسي تحاول أن تنسى فلا نسيان(كلما التأم جرح جد بالتذكار جرح) فتعلم.. أتعلم ماذا؟! الصبر؟ (يابائع الصبر لا تشفق على الشاري... فدرهم الصبر يسوى ألف دينار) ورحم الله معلمنا الفذ بطرس البستاني، وطيب ثرى الدكتور إبراهيم ناجي في أطلاله: لا تقل شئنا فإن الحظ شاء) ‏
وأنت ياشقي لا تؤمن بالحظ, تؤمن بأنامل يدك اليمنى و القلم الشريف متناسياً قدر الإمكان أنك لست في الزمن الجميل، الزمن الذي أردته لوطنك وشعبك وأمتك العربية وما تبرح في هذه الإرادة, حيث أنت وستظل مستمسكاً بهذه (العروة الوثقى) إلى أن تُخطف في السحب, غير مبال بالذين يرجمونك والذين كالروم من خلفك وعن جانبيك! فعلى أيهما تميل!‏
 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.