تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

منير العجلاني يقدم نزار قباني شاعرا

 
في يوم من أيام شهر آب من عام 1944 تقدم طالب الحقوق نزار قباني بحياء من أستاذه في كلية الحقوق الدكتور منير العجلاني، ودفع إليه مجموعة قصائد نثرية سماها (قالت لي السمراء) وكان نزار قباني آنذاك يبلغ من العمر إحدى وعشرين عاماً، بينما منير العجلاني فيبلغ من العمر ثلاثة وثلاثون عاماً، وترجى قباني أستاذه أن يكتب مقدمة لديوانه الأول (قالت لي السمراء).
تصفح العجلاني هذه الأوراق (القصائد) ووضعها تحت إبطه قائلاً للشاعر الشاب دعني أقرأها... قرأ العجلاني هذه القصائد مرة واثنتين وثلاث... وبرغم ما تضمنته من تمرد على القصيدة العربية السائدة آنذاك في الشكل والمضمون، حيث أدخل الشاعر ألفاظاً وصوراً تناول من خلالها المرأة بأسلوب جديد غير مألوف... وبرغم ذلك فقد رأى العجلاني أن هذا الطالب نزار قباني يحمل بين طيات أحرفه ثورة حقيقية في مفهوم القصيدة العربية، وأنه سوف يؤسس لمدرسة جديدة للقصيدة العربية، ويبني إمبراطورية تكتسح جيوشها لغتنا ومفاهيمنا... فأمسك الأستاذ القلم وخط للعالم أجمع ولادة نزار قباني.. فكتب مقدمة ديوان (قالت لي السمراء) معلناً عن ولادة) شيء جديد.. مخلوق غريب.. روائح بود لير وفير لين وألبير سامان...).
أمسك نزار قباني بأوراق منير العجلاني وضمها إلى صدره، وأخذ خياله يسبح في الأفق البعيد.. فهذا الأديب والسياسي منير العجلاني أهم أساتذة كلية الحقوق قال في قصائدي ما قال، فلا بد إذاً من ميلاد لهذه القصائد، فقصد أم المعتز(والدته) طالباً مساعدة الأم الحنون لولدها المدلل فكان له ما كان، فتناولت أم المعتز إسوارتي الذهب من يدها قائلة هذه الأساور هي ثمن لولادة أعظم شاعر دمشقي في العصر الحديث، وركض نزار قباني وديوانه(قالت لي السمراء) ومقدمة الدكتور منير العجلاني لأول مطبعة ودفع أوراقه إليها ودفع ثمن ولادة الشاعر نزار قباني أساور والدته أم المعتز، فولد الشاعر نزار قباني في شهر أيلول من عام 1944، حين ظهر(قالت لي السمراء) إلى حيِّز الوجود متضمناً ما قاله الدكتور منير العجلاني بحقه.
قال العجلاني:
مقدمة طويلة كتبها العجلاني للديوان الأول لنزار، مما جاء فيها: (لا تقرأ هذا الديوان، فما كتب ليقرأ.. ولكنه كتب ليغنّى.. ويشم.. ويضم.. وتجد فيه النفس دنيا ملهمة.
يا نزار !
لم تولد في مدرسة المتنبي، فما أجدك تعنى بشيء من الرثاء والمديح والحكمة، وما أجدك تعنى بالبيت الواحد من القصيدة يضرب مثلاً، وما أجدك بعد هذا تعنى بالأساليب التي ألفها شعراؤنا وأدباؤنا وإنما أنت (شيء جديد ) في عالمنا و(مخلوق غريب).
وكأني أجد في طبيعتك الشاعرة روائح بود لير وفير لين وألبير سامان وغيرهم من أصحاب الشعر الرمزي والشعر النقي.
القدر يخبئ لنا فيك شاعراً عالمياً تسبح أشعاره من بلد إلى بلد وتمر من أمة إلى أمة:
كمرور العطور مبتلة الريش
على كل منحنى ومضيق..
كقطيع من المواويل حطّت
في ذرى موطني الأنيق.. الأنيق..
حزمة من توجع الرصد.. رفّ
من سنونو.. يهم بالتحليق..
أمل !.. ولكنه أمل ركزته في نفسي قصيدتك (اندفاع). فما أظن أن شاعراً أوروبياً كبيراً يكره أن تنسب هذه القصيدة إليه.
وبعد.. سألني صاحب هذا الديوان أن أكتب له تقدمة، ولو ملكت الخيار لقلت له: ديوانك كلّه تقدمة، إلى كل نفس تحس وتشعر..
أما (ورقة إلى القارئ) فتكاد تكون (برنامجاً شعرياً) أو (بياناً عاطفياً) لخص فيه الشاعر نزعاته وأساليبه بما يغني عن كل توطئة. فهو رمزي، غريزي، عفوي. وهذه الكلمات كلها تحتاج إلى شيء من التذييل.
على أن شاعرنا إن لم يكن منحلاً في الشهوة، فقد وُفق في وصف الجمال، والحب البكر توفيقاً بعيداً، حتى لتكاد تشعر وأنت تنشد بعض قصائده أنك في عرس من أعراس الآلهة، وإنها تتخاطب بلسانه.
أما جمال حسنائه فقد صنع له صورة لا تختلف عن صورة الرسام إلا بأنها تتكلم.. وإلا بأنها شاعرة وعاشقة.
بهذه الكلمات قدم الأستاذ الجامعي طالبه نزار قباني إلى العالم أجمع، وتحققت نبوءة الأستاذ وأخذت أشعار الطالب تسبح (من بلد إلى بلد وتمر من أمة إلى أمة)
قباني يرد على العجلاني
وبعد عشرات السنوات أراد نزار قباني رد الجميل للدكتور العجلاني لأنه أول من مد يد المساعدة له وقدمه للعالم أجمع فما رأى إلا هذه الكلمات التي تعبر عن علو السمو وأنه فعلاً شاعر عظيم:
( يا صاحب المعالي... الآن وقد قدر لهذه الدفقة من الشعر التي جعلتها, بتقدمتك لها, تورق وتزهر.. أن تمر على أنامل الناس.
الآن..وقد صار شعري ملكاً لغيري.. أعود إليك أقول لك بأنك أنبل من ولدته أم, هذا الجميل الذي قدمته يداك لي لا أملك ردّه, لأنك على كل حال أشعر مني ولأن كل هذا الشعر الذي تقرؤه الدنيا عني إن هو إلا تقدمة نثرية لتقدمتك الشعرية).
أول إهداء
كان نزار قباني أهدى النسخة الأولى من" قالت لي السمراء " لوالده " أبو المعتز" وكتب عليها بخط يده يقول:
(سيدي الوالد العظيم....
لي كبير الشرف أن أضع بين يديك الرحيمتين أثري الأول في هذه الحياة, هذا الأثر الذي لولا حنانك وحدبك مع تلك الأم التي هي صورة الله على الأرض. لولاكما لما كان لهذا الديوان أن يكون في حيز الوجود.. وإنها لتقدمة هزيلة شديدة الهزال.. متواضعة شديدة التواضع..أمام ما قدمتما لنا منذ أن استنشقنا هواء الدنيا.. من محبة.. ورحمة...
ثقافة.. مما لا يوفيه لسان.. لا يسده كتاب...
7 تشرين الأول 1944 )
كما أهدى هذا الشاعر نسخة أخرى من " قالت لي السمراء " إلى والديه فكتب:
( إلى والدتي..أم نبيه...وأب شهم ! هما أعطياني الوجود...
فليكن لهما بعض آثار هذا الوجود. )
أما معشوقتة زهراء آق بيق فقد كتب لها إهداءً يقول:
(لزهراء.. أمني بي.. فمن يجيء بشعر مثل هذا.. من زهرة الأنبياء.. ؟! )

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.