تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

.. لا تضحوا بالأب والأم والجنين معاً!!

يتداول الجميع طرفةً عن الطبيب الذي اضطر أثناء عملية الولادة إلى التضحية بالأم والجنين كي يعيش الأب... ويزيد آخرون جرعة السخرية فيها فيتحدثون عن التضحية بالأب والأم والجنين معاً... ويبدو أن هذا هو الوضع الذي يريد البعض أن يدفعنا إليه وُيغرينا به تحت ذريعة دعم الرئيس الأمريكي باراك أوباما في موقفه من سياسات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، فكيف يمكن أن ندعم أوباما دون أن نضطر إلى التضحية بالعرب والسلام والحقوق معاً؟

 
يؤكد بعض صنّاع القرار في عالمنا العربي ونخبه المثقفة أن الرئيس أوباما مختلف تماماً عن سلفه بوش الابن وأنه وبعض أركان إدارته أطلقوا تصريحات غير مسبوقة عن عملية السلام وطبيعة العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية تنذر ببوادر جفاء مع حكومة نتنياهو وأن هذه فرصة ذهبية يتعين على العرب أن يستثمروها. ‏
 
ولا خلاف على صحة وصوابية هذا الرأي فأوباما مختلف عن بوش، نظرياً وخطابياً حتى الآن على الأقل، والمنطق السياسي يقتضي استثمار ما يجري من تباين أمريكي ـ إسرائيلي حول الاستيطان ومستقبل عملية السلام وإن كان هذا التباين يقتصر حتى الآن أيضاً على بعض التصريحات القليلة الشجاعة التي بقيت في إطار الأقوال ودون أن تترجم إلى أفعال وممارسات علماً أننا سنجد أيضاً كمّاً هائلاً من الأقوال المقترنة بالأفعال والسياسات التي أثبتت فيها إدارة أوباما التزامها المطلق والأبدي بأمن إسرائيل. ‏
 
ولكن المشكلة تأتي من خلال الإجابة عن سؤال كيف ندعم إدارة أوباما؟ ‏
 
يقترح «العقلانيون العرب» هنا طائفة من الأفكار منها تبني خيار واقعي ينبذ المقاومة ويتبرأ منها ويتجنب الإشارة إليها أو التهديد بها صراحةً أو ضمناً لتشجيع إدارة أوباما على استمرار التصريح بما تقوله.. ويطلبون تبني خطاب هادئ لا ينفعل من الممارسات الإسرائيلية ولا يتشنج لتهويد القدس وبدء جهود إزالة الأقصى من الوجود ولا يمارس الحق الطبيعي والغريزي بالدفاع عن النفس في مواجهة أي عدوان إسرائيلي لم يتوقف يوماً حتى لا نشوش على تركيز إدارة أوباما في مساعيها الحالية. ويقترح بعض «العقلانيين» أيضاً وجوب معاداة من تعاديه أميركا في منطقتنا والسعي لعزله وتحجيمه حتى نطمئن واشنطن بالفعل إلى أننا معها وإلى جانبها وربما أمامها في عداء من تعاديه ورفض من ترفضه على أمل أن تصبح ذات يوم ولو مرّة معنا، وهم يحثون أيضاً على عدم التسرع بتدويل ما يجري مجدداً من خلال الذهاب إلى المحافل الكلامية الدولية كمجلس الأمن حتى لا نحرج أمريكا وندفعها إلى استخدام الفيتو مجدداً لمصلحة إسرائيل كالعادة، علماً أنهم يطالبوننا أيضاً منذ الآن بوجوب التفكير والتمهيد للقبول لاحقاً بحلول واقعية نهائية تتطلب فيما تتطلبه التخلي عن الكثير من الحقوق والثوابت المؤكدة بقرارات دولية ملزمة وهم يقترحون كأمثلة على ما يتعين علينا القبول اللاحق به إسقاط حق العودة واختراع قدس جديدة نقبلها ونفرح بها فضلاً عن الخضوع لشروط إسرائيلية إضافية للسلام الدائم والذي يستلزم بمفهومهم تثبيت تخلينا عن الكثير من الحقوق والقبول بالعديد من القيود حتى يعم السلام الإسرائيلي منطقتنا ويخيم على أطلال مقدساتنا التي لن يظل منها عندئذ إلا صور تذكرنا بالذي كان. ‏
 
إن كل ما سبق يقال صراحة بصيغ وأشكال وعبارات مختلفة في بعض الاجتماعات الرسمية المغلقة وُيعاد ترويجه من بعض النخب المثقفة على الفضائيات وعبر كمّ هائل من الأخبار والمقالات التي يتم تسويقها تحت ستار «الواقعية». ‏
 
هذه الواقعية العربية الجديدة المزعومة التي لا بد أن تقترن بالضرورة مع تسخيف أي فكر مقاوم في المقابل واتهامه بالتحريض العشوائي وتبني خطاب إنشائي وكل ذلك في سياق استراتيجية لا تزال مستمرة وهي تستهدف تسويق ثقافة الاستسلام تحت ستار الواقعية وقمع ثقافة المقاومة من خلال اتهامها بالخطابية وعدم الفاعلية. ‏
 
علماً أن قراءة هادئة وعقلانية وأكاديمية لتاريخ العلاقات الدولية وواقعها المعاصر تكشف لنا كذب ما يقولون وزيف ما يروجون وخطورة ما يدسونه في المقالات وعبر الفضائيات فلا وجود لشعب تحرر دون مقاومة، ولم يرحل محتل على الإطلاق تحت تأثير استجداء السلام ومن خلال إغوائه بتقديم كل التنازلات، ولم يسبق أن ضغطت دولة على أخرى لتأمين الحرية والسيادة والاستقلال لطرف ثالث.علماً أن قراءة التاريخ وتأمل الواقع يكشفان أيضاً أن ممارسة الحق في المقاومة والدفاع عن النفس لا يتوقفان على التكافؤ في القوّة والتناسب في الموازين العسكرية والاقتصادية لأن الضحية يخوض هنا حرباً حتمية مفروضة عليه وليست اختيارية فلا مجال أمامه للمفاضلة والتأمل بين الخيارات والبدائل .. فلو هجم لصوص على منزلك فلا يتصور أن تقول لهم أنتم أقوى مني وأكثر عدداً لذلك لن أقاومكم وحتى لن أزعجكم بكلامي فاسرقوا ما تريدون وخذوا ما تحبون وغادروا منزلي أو جزءاً منه إن أردتم الآن أو متى تشاؤون. ‏
 
هذا ما يطلب منّا أن نقوم به الآن تحت ستار العقلانية والواقعية وهي المصطلحات التي باتت تخفي وراءها كمّاً هائلاً من التراجعات الُمحبطة والتنازلات المذلّة التي يتم تسويقها كالعادة بعبارات زاهية ولطيفة ومحترمة حتى تصبح أكثر قدرة على الترويج والتمرير والتنفيذ اللاحق بهدوء وسلاسة. ‏
 
ويبقى السؤال: كيف نساعد أوباما الذي هللنا لقدومه قبل عام حتى يساعدنا فبات العكس هو المطلوب منّا؟ ‏
 
سأفترض أن أوباما أكثر من رائع وعادل وأنه بالفعل مخلّصنا المُنتظر وقديسنا العائد وأعتقد حينها أنه لو نطق باللغة العربية لطلب منّا أن نساعده بتشددنا وليس بتراجعنا ومن خلال تمسكنا بالحقوق والثوابت وليس بالتخلي عنها، لأن جوهر القضية الآن يتلخص بأن أوباما يقول للإسرائيليين وداعميهم في واشنطن إن سياسات تل أبيب لم تعد مقبولة وإن رد الفعل العربي لم يعد قابلاً للضبط وإن المصالح الأمريكية مع العرب أصبحت مهددة بفعل الانحياز الأمريكي الدائم وهو ما يتطلب تراجعاً إسرائيلياً وتوازناً أمريكياً حتى يتم امتصاص ميل العرب نحو التصالح واسترداد خيار المقاومة. ‏
 
فإذا تراجع العرب الآن وفي هذا التوقيت المبكر وتحت ستار الواقعية والعقلانية فأجهضوا خيار المقاومة وقمعوها وهاجموا من يتبناها وُيروج لها، وتراجعوا عن جهود المصالحة وتوحيد البيت العربي وعادوا للانشغال بخلافاتهم وانقساماتهم وسرعة تقديم التنازلات المجانية لتأكيد حسن نيتهم الُمفرطة، فسيجد أوباما عندئذ من يهمس له بأن الأمر ليس بالخطورة التي كان يتوقعها وأن العرب سيعودون لسابق عهدهم من السكينة والهدوء والخضوع وأنه من الأفضل له أن يتعامل »بواقعية« فلا يخسر إسرائيل حتى يكسب ولاية ثانية مادام معظم العرب ثابتين على العهد والولاء لساكن البيت الأبيض وبغض النظر عن سياساته وتصريحاته. ‏
 
وهكذا فإن الواقعية الجديدة في العالم العربي ستقودنا ليس فقط إلى التضحية بالأب والأم والجنين معاً، وفقاً للطرفة العربية، وإنما إلى خسارة أنفسنا والسلام والحقوق وأوباما أيضاً، ليثبت العرب مجدداً أن واقعهم أكثر سخرية بكثير من كل طرائف العالم مجتمعةً!. ‏
 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.