تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

أوباما: التراجع عن بيكر ـ هاملتون والعودة إلى كيسنجر

الحديث عن غياب إستراتيجية واضحة لدى إدارة الرئيس الأميركي تجاه الملفات الشائكة في المنطقة، لم يعد يقتصر على منتقدي هذه الإدارة داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها، فقد دخل على خط الحديث عن الفراغ الإستراتيجي، الكثير من الكتاب والمفكرين الذين روّجوا قبل عامين لمغامرة تغيير يقودها المرشح باراك أوباما.

 
وإذا كان واضحاً أن السياسات الأميركية على الساحة الدولية تتخذ عموما اتجاه التراجع عن التوجهات الحربية لإدارة الرئيس السابق جورج بوش، فيما عدا الحرب على أفغانستان، فإنه من الممكن أيضاً تفسير بعض خطوات التراجع في خدمة مواصلة الحرب في أفغانستان، فمن المبكر مثلاً احتساب التفاهمات المتلاحقة مع روسيا، والتي تتخذ أشكالا مباشرة وغير مباشرة في ترجمتها، على رؤيا تراجعية عن خيارات الحرب، بينما يراها البعض ترجمة لخدمة سياسات الحرب التي تعثرت بسبب ما يسمونه الرعونة والغرور في معاملة روسيا، كما يقول وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر، في وصف مشروع الدرع الصاروخية في تشيكيا وبولندا، ومحاولة وضع اليد الأميركية في الجيب الروسي، عبر العبث في الحديقة الخلفية لروسيا بضم جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف الأطلسي، وخلافاً لأقرانه الذين دعوا إلى تصويب العلاقة مع روسيا على قاعدة رؤيا عامة للتراجع عن سياسات الحرب ، كان كيسنجر يرى في التفاهمات مع روسيا مهما كانت مكلفة، خريطة الطريق الوحيدة لكسب ما تبقى من الحروب، وخصوصا المواجهة مع إيران والحرب في أفغانستان. ‏
 
اتفاقيات الحد من انتشار الصواريخ والتغييرات في خريطة الجوار الروسي التي تتخذ أشكالا متعددة، تفاهمات، ثورات مضادة، أحداثاً قدرية، تعديلات حكومية، كلها تصب في اتجاه جعل العلاقة الروسية ـ الأميركية أكثر هدوءاً، لكن ذلك لا يعني حكما اتجاه الإدارة الأميركية لإقفال ملفات النزاعات التي فتحتها الإدارة السابقة، بينما تتزايد المؤشرات على روح التصعيد في التعامل مع ملفي أفغانستان وإيران، التي وصلت إلى تهديد الرئيس الأفغاني المدعوم أميركيا ومعاملته بطرق خشنة تشبه ما يلقاه مواطنوه من القوات الأميركية وهو الآتي على الدبابة الأميركية، وعلى الضفة الأخرى العودة إلى التحرك لحشد دولي يسمح بتشديد العقوبات على إيران. ‏
 
ما يعطي المزيد من المصداقية للتحليل الذي يضع السياسات الأميركية تجاه روسيا في خانة الرؤيا الكيسنجرية، هو التردد في سلوك خطوات واضحة وحاسمة تجاه القضية التي يجمع المفكرون والخبراء الأميركيون على اعتبارها مفتاح تحسين الصورة الأميركية أمام الشعوب العربية والإسلامية، وهي القضية الفلسطينية، حيث نشهد صوتا أميركيا مرتفعا نسبيا في الاحتجاج على بعض المواقف الإسرائيلية، وامتناع مطلق عن أي خطوات حقيقية تزعج إسرائيل أو تلزمها بإعادة النظر بحساباتها. ‏
 
الواضح إذاً أن تراجعا جذريا جرى عن الرؤيا التي سوق المفكرون الديمقراطيون لتحولها إلى إستراتيجية الإدارة الجديدة، كما كتب ريتشارد هاس عن وثيقة بيكر ـ هاملتون كدليل عمل في تصفية التركة الثقيلة التي خلفتها حروب جورج بوش، ووثيقة بيكر ـ هاملتون لم يبق منها في سياسات إدارة أوباما إلا الانسحاب من العراق، وتبخر الأهم والأبرز من نصائح الوثيقة التي قامت على مقاربة مشكلات الحروب التي أطلقتها إدارة الرئيس بوش على قاعدة أن القضية الفلسطينية هي بوابة الحلول، وأن إعادة صياغة السياسة الدولية للولايات المتحدة مطلوب منها تحسين العلاقات مع روسيا وأوروبا وإعادة الاعتبار للمنظمات الدولية، ولكن هذا لن يصنع الاستقرار من دون خطوات جريئة في مجالات عدة تناولتها، أبرزها حل القضية الفلسطينية على قاعدة القرارات الدولية بما فيها حق العودة للاجئين الفلسطينيين، والتسليم بمكانة ودور سورية الإقليميين في لبنان والعراق والسلام في المنطقة، والتسليم المقابل بإيران نووية ودولة إقليمية عظمى ذات نفوذ حاسم في قضايا أمن الطاقة والخليج والعراق وأفغانستان، وصولا إلى الدعوة إلى إعادة النظر في التعامل مع حركات المقاومة الوطنية في المنطقة والتدقيق في صحة توصيفها بالإرهاب. ‏
 
كيسنجر بصفته أول من رفض الوثيقة واعتبرها إعلان هزيمة مركبة لا تتحملها الولايات المتحدة، رسم بديله المزدوج بالدعوة إلى ترميم تعاون الدول العظمى وخصوصا روسيا والصين وعقد صفقات معها أقل تكلفة من التسليم بقوى إقليمية عظمى تدخل كلاعب معترف به على الساحة الدولية، ودعا على هذه القاعدة إلى الانخراط المشروط مع اللاعبين الجدد وخصوصا سورية وإيران، ومحور التفاوض هو حماية وأمن إسرائيل التي لا تتحمل البقاء إذا فرضت عليها توصيات بيكر ـ هاملتون. ‏
 
الواضح أن إدارة أوباما تركت نظرية هاس عن عالم بلا أقطاب ونصائح بيكر ـ هاملتون لحل القضايا الشائكة باعترافات جريئة، ولجأت إلى معادلة كيسنجر لتمييع الصراعات وإعادة بناء احتكار دولي جديد يتقاسم فيه اللاعبون الكبار الأدوار، وفقا لمعادلات أقل طموحاً من مشروع المحافظين الجدد الاحتكاري القائم على القطبية الأحادية، وتبدي التعددية القطبية بملامح جديدة مضمون خطة أوباما وإدارته على قاعدة تجاهل الملفات الصعبة وتأجيلها إلى حين تبلور التفاهمات الدولية الجديدة. ‏
 
في هذا السياق يصبح الانفتاح على القوى الصاعدة ومواصلة سياسات الضغط عليها في آن معاً، تعبيراً عن العودة المتجددة لمعادلة الاحتواء المزدوج التي رسمها كيسنجر نفسه في الثمانينيات، تحت عنوان: لا عداء ولا صداقة، لا حرب ولا سلام، ولا مانع من التفاوض للتفاوض، وربما يكون التعاون الإجرائي بديلاً من التفاهم السياسي المفقود. ‏
 
بغض النظر عن فرص هذه النظرية الكيسنجرية بالنجاح، وهي فشلت في أيام عظمة القوة الأميركية ـ السوفييتية التي كانت تتقاسم العالم في إنهاء القضية الفلسطينية وتذويب تطلعات الدول النامية لدخول نادي الكبار كما كان الحال مع الصين، وبغض النظر عن طبيعة التعامل الروسي والصيني مع انفتاح أميركي مفضوح الخلفيات في زمن الضعف بعد محاولات الحصار في زمن وهم القوة ، وبغض النظر عن مفاعيل تغير الأزمنة، والقوى العظمى هرمة والقوى الصاعدة شابة ومتحفزة وحركات المقاومة تحقق الانتصارات، إلا أن النتيجة الواضحة هي أن زمان الاستقرار يبدو بعيداً عن منطقتنا، التي سوف تتحول إلى مختبر لنظريات كيسنجر مرة أخرى، حتى تنضج في العقل الأميركي حقيقة أن الذي تغير في المنطقة والعالم أكبر من أن يتم احتواؤه بالتكتيكات، بينما المطلوب تغيير الإستراتيجيات وليس حقنها بمصل يمدد فترة بقائها على قيد الحياة. ‏
 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.