تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

"السفير": هكذا تحدثت تحية عبد الناصر(1)لأول مرة

مصدر الصورة
sns - السفير

 

محطة أخبار سورية

تنشر صحيفة «السفير» اللبنانية ابتداء من اليوم، باتفاق خاص مع صحيفة «الشروق» المصرية ذات الحق الحصري، مذكرات زوجة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، السيدة تحية كاظم، التي دونتها الراحلة بخط يدها.. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ النشر العربي التي تظهر فيها زوجة عبد الناصر شاهدة على الأحداث التي مرت بها مصر منذ حرب فلسطين 1948 وحتى رحيل عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970.

وتأتي المذكرات مزيجا من السيرة الذاتية والعائلية، غير أنها وهي تسرد محطات حياتها مع الزعيم الراحل تكشف الغطاء، بعفوية مفرطة، عن مواقف وأحداث سياسية لا تزال محاطة بغلالة من الغموض، بحيث تضيف جديدا ومفاجئا أحيانا لما استقر في الذاكرة المصرية والعربية من أحداث اكتسبت صبغة اليقين أو الحقيقة التاريخية.

هذه المذكرات، مثلا، تقدم رواية أخرى، مختلفة وجديدة تماما، للمشهد الأخير في حياة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وتضفي على القصة دراما تاريخية مذهلة تتعلق بقصة المشروب الأخير الذي تناوله ومن الذي صنعه ومن قدمه له وهو على فراش الموت.

ومن أطرف ما في المذكرات ذلك اللقب الذي أطلقه الزعيم الراحل على زوجته «تحية الانفصالية» توصيفا لمواقف وقناعات أبدتها الراحلة حول قضية الوحدة المصرية السورية.

لكن من أهم ما بين السطور، أنها تقدم قراءة عن كثب لتفاصيل العلاقة الإنسانية بين جمال عبد الناصر وأنور السادات، تحكيها زوجة زعيم الثورة، وتكشف عن مفاجآت تخص علاقة السادات بثورة يوليو 1952، والأسباب التي دفعت عبد الناصر لوضعه في الصفوف الأولى.

حاولت تحية عبد الناصر كتابة مذكراتها مرتين، الأولى في حياته، والثانية بعيد رحيله، لكنها لم تقو على المواصلة فمزقت ما خطت يداها، حتى كانت الثالثة في الذكرى الثالثة لرحيل «الرئيس» كما كانت تسميه، فكتبت وواصلت.. وهكذا تحدثت السيدة تحية..

تحية جمال عبد الناصر بعد الرحيل:

اليوم 24 سبتمبر سنة 1973.. بعد أربعة أيام ستكون الذكرى الثالثة لرحيل القائد الخالد جمال عبد الناصر..

زوجي الحبيب. لم تمر علي دقائق إلا وأنا حزينة.. وهو أمام عيني في كل لحظة عشتها معه.. صوته، صورته المشرقة، انسانياته، كفاحه، جهاده، كلامه، أقواله، خطبه.. مع الذكريات أبكيه بالدموع أو أختنق بالبكاء،

وحتى اذا ضحكت فشعوري بأني مختنقة بالبكاء مستمر لقد عشت مع جمال عبد الناصر ثماني سنوات قبل الثورة، وثمانية عشر عاما بعد قيامها في 23 يوليو سنة 1952. لقد تزوجنا في 29 يونيو سنة 1944، أي عشت معه ستة وعشرين عاما وثلاثة أشهر، فبالنسبة لي، الآن أعيش مرحلة ما بعد رحيله.

لقد عشت معه مرحلتين: قبل الثورة وبعدها، والمرحلة الثالثة وهي التي أعيشها بعد رحيله ولم يرها.

آه ما أصعبها.. يا لها من مرحلة قاسية من كل الوجوه، فراقه وافتقادي له.. لم أفتقد أي شيء إلا هو، ولم تهزني الثمانية عشرة عاما إلا أنه زوجي الحبيب، أي لا رئاسة الجمهورية ولا حرم رئيس الجمهورية.

لقد عشت هذه السنين الطويلة قبل رحيل الرئيس (لقد اعتدت أن أقول الرئيس لأني أشعر أني لا أستطيع أن أقول غير الرئيس) - وسأظل أقولها.. كانت مليئة بالمفاجآت، بل كانت كلها مفاجآت وأحداثا، لكنها بالنسبة لي لم تكن صعبة، بل كنت سعيدة مرحة. وفي أصعب المآزق التي كنت أشاهدها، كنت أحيانا أضحك من المصيبة التي ربما تحل بي، لكنها الحمد لله كلها مرت على خير.

لقد فكرت في الكتابة عن حياتي مع جمال عبد الناصر في أول مرة، وكان في سوريا أيام الوحدة في سنة 1959، وأمضيت ما يقرب من ثلاث سنوات أكتب باستمرار عما مضى وعن الحاضر، لكني ذات يوم قلت: لم أكتب؟ وكان الرئيس يعلم إني أكتب مرحبا. غيرت رأيي وقلت في نفسي: لا أريد أن أكتب شيئا، وتخلصت مما كتبت، وأخبرت الرئيس، فتأسف وقال لي: لم فعلت ذلك ؟ فقلت له: إني سعيدة كما أنا ولا أريد أن أكتب شيئا، وقلت: ربما تكلمت عن حقائق تحرج بعض الناس، وتكون متصلة بحقائق كنت أراها تدور أمامي، فقال لي: افعلي ما يريحك. إنني كتبت عما أذكره من مواقف ومفاجآت مما كان يحصل في بيتنا، وما كنت أسمعه وأشاهده بعيني، وما كان يقوله لي الرئيس. وقررت أن لا أكتب أبدا، وقلت له: أنا ما لي.. وضحكنا.

في العام الماضي، قررت أن أكتب وأنا أعلم جيدا أن الرئيس كان آسفا، لأني لم أستمر في الكتابة.

وتخلصت مما كتبت، فأنا أعيش الآن كأنه موجود بجانبي لا أتصرف أو أفعل شيئا كان لا يحبه، ولو كنت أعلم أنه لا يريدني أن أكتب شيئا ما فعلت.

ابتدأت أكتب وأعيش مع ذكرياتي، لكني لم أتحمل فكنت أنفعل والدموع تنهمر، وصحتي لم تتحمل، فوضعت القلم وقلت سأتوقف عن الكتابة، ولأبقَ حتى أرقد بجانبه.. وتخلصت مما كتبت مرة ثانية.

لكنى وجدت أن لي رغبة في الكتابة في ذكراه الثالثة.. فلأتحمل كل ما يحصل لي.

بما إني أتكلم الآن عن المرحلة الثالثة، أي بعد رحيل الرئيس فلأتحدث: فأنا أعيش في منشية البكري.. بيت الرئيس جمال عبد الناصر مع أصغر أبنائي عبد الحكيم - الطالب بكلية الهندسة جامعة القاهرة - ويبلغ من العمر الآن ثمانية عشر عاما وثمانية أشهر، وهو الذي طلب منى أن أكتب، وألح في انه متشوق لمعرفة كل شيء عن والده العظيم. وكان حكيم قد طلب من المسؤولين شرائط خطب والده ليسمعها ،لأنه لم يكن عنده فرصة لسماع كل أقوال القائد الخالد بصوته، إذ كان طفلا، وبعضها قبل أن يولد.. إنه هو الذي يسعى بنفسه الى الحصول عليها، فقد طلب أولا من رئيس الوزراء وهو صديق لنجله فوعده، وطلب من رئيس الجمهورية وقابله بنفسه ووعده، وسألني أن أشترى الشرائط لتسجلها الإذاعة، فقلت له: إني على استعداد لأن أدفع أي ثمن. وأخيرا قابلت وزير الثقافة صدفة فسألته عن الشرائط، فقال لي: لم يطلب منى أحد، ووعدني بأنه سينظر في الأمر.. أرجو أن تصل ابني عبد الحكيم الشرائط قريبا إن شاء الله.

بعد رحيل الرئيس ألاقي تكريما معنويا كبيرا من كل المواطنين الأعزاء، فجمال عبد الناصر في قلوبهم، وما يصلني من البرقيات والرسائل والشعر والنثر والكتب الكثيرة من أبناء مصر الأعزاء، ومن جميع الدول العربية والغربية أي من كل العالم، وما يصلني من البرقيات لدعوتي للسفر لزيارتهم من رؤساء الدول الصديقة، وبتكرار الدعوة أو زيارتهم لي عند حضور أحد منهم، أو ارسال مندوبين عنهم من الوزراء ليبلغوني الدعوة، لدليل التقدير والوفاء. وعندما أخرج أرى عيون الناس حولي.. منهم من يلوح لي بيده تحية، ومنهم من ينظر إلي بحزن، وأرى الوفاء والتقدير في نظراتهم.. كم أنا شاكرة لهم. وأحيانا أكون في السيارة والدموع في عيني فتمر عربة بجانبي يحييني من فيها.. أشعر بامتنان. وغالبا ما أكون قد مررت على جامع جمال عبد الناصر بمنشية البكري. إني أرى هذه التحية لجمال عبد الناصر.. وكل ما ألاقيه من تقدير فهو له.

جمال يتقدم لتحية

فلأتكلم الآن عن ذكريات من حياتي مع جمال عبد الناصر.. كيف عرفني وتزوجني؟

كانت عائلتي على صداقة قديمة مع عائلته، وكان يحضر مع عمه وزوجته التي كانت صديقة لوالدتي، ويقابل شقيقي الثاني، وأحيانا كان يراني ويسلم علي. فعندما أراد أن يتزوج أرسل عمه وزوجته ليخطباني، وكان وقتها برتبة يوزباشي، فقال أخي ـ وكان بعد وفاة أبي يعد نفسه ولي أمري ـ إن شقيقتي التي تكبرني لم تتزوج بعد. وكان هذا رأي جمال أيضا، وقال: إنه لا يريد أن يتزوج إلا بعد زواج شقيقتي.. إن شاء الله يتم الزواج، وبعد حوالى سنة تزوجت شقيقتي. بعدها لم يوافق أخي على زواجي.. لقد كانت تقاليد العائلة في نظري أن لي الحق في رفض من لا أريده، ولكن ليس لي الحق في أن أتزوج من أريده، وكنت في قرارة نفسي أريد أن أتزوج اليوزباشي جمال عبد الناصر.

بعد شهور قليلة توفيت والدتي، فأصبحت أعيش مع أخي وحيدة، اذ كان أخي الثاني في الخارج.

كان أخي يتولى إدارة ما تركه أبي الذي كان على جانب من الثراء، وكان أخي مثقفا اذ كان من متخرجي كلية التجارة، أي يحمل بكالوريوس، ويشتغل في التجارة والأعمــال المالية والصفقات في البورصة، وكان شديدا في البيت، محافظا لأقصى حد، لكنه في الخارج كانت له حياته الخاصة.

مكثت مع أخي بضعة شهور وأنا وحيدة تزورني شقيقاتي من وقت لآخر، وفي يوم زارتنا شقيقتي وقالت: إن عم اليوزباشي جمال عبد الناصر وزوجته زاراها وسألا عني، وقالا لها: إن جمال يريد الزواج من تحية، وطلبا أن تبلغ أخي.. فرحب أخي وقال: إننا أصدقاء قدماء وأكثر من أقارب، وحدد ميعادا لمقابلتهم، وكان يوم 14 يناير سنة 1944.

قابلت جمال مع أخي، وتم تحديد الخطوبة ولبس الدبل والمهر وكل مقدمات الزواج بعد أسبوع، وطبعا كان الحديث بعد أن جلست فى الصالون فترة وخرجت.

وفى يوم 21 يناير سنة 1944 أقام أخي حفلة عشاء.. دعونا أقاربي، وحضر والده وطبعا عمه وزوجته، وألبسني الدبلة وقال لي إن كتب التاريخ يوم 14 يناير.. وكان يقصد أول يوم أتى لزيارتي، ثم أضاف انه عندما زارنا لم يحضر لرؤيتي هل أعجبه أم لا ـ كما كانت العادة في ذلك الوقت ـ هذا ما فهمته من كلامه معي. قال له أخي: إن عقد القران يكون يوم الزفاف بعد إعداد المسكن، على أن يحضر مرة في الأسبوع بحضور شقيقتي أكبرنا، أو بحضوره هو، وطبعا كان وجود أخي في البيت قليلا، فكانت شقيقتي تحِضر قبل وصوله. وقبل جمال كل ما أملاه عليه أخي، وقد أبدى رغبة في الخروج معي طبعا بصحبة شقيقتي وزوجها فلم يمانع أخي.

لاحظت أنه لا يحب الخروج لنذهب لمكان مجرد قعدة أو نتمشى في مكان، بل كان يفضل السينما وأحيانا المسرح.. وكان الريحاني، وكنت لم أر إلا القليل، فكل شيء كان بالنسبة لي جديدا.. أي لا يضيع وقتا هباء بدون عمل شيء ، وكل الخروج كان بالتاكسي، والمكان الذي نذهب اليه السينما أو المسرح يكون «بنوار» أو «لوج»، وكنا نتناول العشاء في بيتنا بعد رجوعنا .

بعد خمسة أشهر ونصف، تم زفافي لليوزباشي جمال عبد الناصر.. يوم 29 يونيو سنة 1944. أقام لي أخي حفلة زفاف.. بعد عقد القران مباشرة خرجت مع جمال للذهاب للمصور «أرمان»، وكان قد حجز موعدا من قبل، كانت أول مرة أخرج معه من دون شقيقتي وزوجها. ملأنا عربة بأكاليل الورد لتظهر في الصورة، وقد نشرت بعد رحيله في السجل الخاص بصور جمال عبد الناصر الذي قدمه «الأهرام».

رجعنا البيت لنقضي السهرة، وفي الساعة الواحدة صباحا انصرف المدعوون وانتهى حفل الزفاف، وكنا جالسين في الصالون ـ هو وأنا ـ فدخل شقيقي ونظر في ساعته وقال: الساعة الآن الواحدة فلتبقوا ساعة أخرى أي حتى الساعة الثانية، ولم يكن هناك أحد حتى أقاربي راحوا، وكان باديا عليه التأثر فقال له جمال: سنبقى معك حتى تقول لنا روحوا. وفي الساعة الثانية صباحا قام أخي وبكى، وسلم على وقبلني وقال: فلتذهبا.. أما أنا فانحدرت من عيني دمعة صغيرة تأثر لها جمال. وأذكر في مرة وكنا جالسين على السفرة وقت الغداء وكل أولادنا موجودون، وجاءت ذكرى أخي، فقال الرئيس لأولاده وهو يضحك: الوحيد في العالم الذي أملى علي شروطا وقبلتها هو عبد الحميد كاظم.. وضحكنا كلنا.

إلى منزل الزوجية

لم أكن رأيت المسكن من قبل ولا الفرش أو «الجهاز» كما يسمونه، وكان في الدور الثالث. صعدنا السلالم حتى الدور الثاني ثم حملني حتى الدور الثالث.. مسكننا، وكان طابقا بأكمله، وله ثلاثة أبواب.. باب على اليمين وباب على اليسار وباب على الصالة. الأول يوصل لحجرة السفرة، والثاني لحجرة الجلوس، والثالث.. وهو باب الصالة في الوسط. وجدنا البيت كله مضاءا وهو مكون من خمس غرف. أمسك جمال بيدي وأدخلني كل حجرات المنزل لأتفرج عليه، وقد أعجبني كل شيء وأنا في غاية السعادة. صرفت في تأسيس المنزل مما ورثته من أبي.. وكان لا يقارن بثراء أخي.

بدأت حياتي بسعادة مع زوجي الحبيب وكنا نعيش ببساطة بمرتب جمال، وتركت أخي وثراءه ولم أفتقد أي شيء حتى التلفون.. لم أشعر أن هناك شيئا ناقصا ونسيته.

أول مرة خرجت كان بعد ثلاثة أيام من زواجنا.. ذهبنا للمصور أرمان لنرى بروفة الصور، وكانتا اثنتين قال لي جمال: اختاري التي تعجبك.. واخترت الصورة التي هي معلقة في صالون المنزل في منشية البكري مع صور أولادنا الآن.

جميع الحقوق محفوظة لدار الشروق 2011

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.