تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

من مواطن سوري إلى السفير الأميركي في دمشق

محطة أخبار سورية

يأتي السفير الأميركي إلى دمشق بعد انقطاع دام نحو ست سنوات ليسجل معادلة عبر عنها جيفري فيلتمان بأن محاولة عزل دمشق انتهت إلى عزل الولايات المتحدة عن قضايا المنطقة، وهي المرة الثالثة التي أكتب فيها إلى سفير أميركي معيّن ناصحاً إياه بخصوص دولة لا يعرف عنها إلا القليل، بعد رسالتين مماثلتين الى السفير والسفيرة السابقين.

 

 

سعادة السفير، أعتقد أنك أتيت إلى أصعب مهمة في حياتك وأسهلها. صعوبتها تتأتى من الطبيعة المختلفة للدولة والشعب في سورية، وسهولتها من أن هنالك رغبة أصيلة في أن تكون هنالك علاقات إيجابية بين البلدين؛ فسورية لم تعتبر الولايات المتحدة عدوة قط. أود أن أذكرك أن سفيراً واحداً استطاع أن ينال تقدير السوريين وهو أدوارد دجيرجيان لأنه حاول أن يقارب بين الدولتين على قاعدة المصالح المتبادلة، ولم يخترق ما يعتبره السوريون خطوطاً حمراً. لعلك التقيته وعرفت منه شيئاً ما عن هذا البلد. هو بالتأكيد ليس الأمثل لكنه يبقى في ذاكرة السوريين على أنه سفير إيجابي بمقاييس السفراء.

أتمنى عليك بداية أن تعرف أنك تأتي إلى دولة ذات سيادة؛ يعتز كل من فيها باستقلالها، وأنها من النوع الذي لا يلين ولا يضحي بمصالحه من أجل الآخرين. مفتاح السوريين يا سعادة السفير: السيادة. هكذا، بكلمة، ومن دون رتوش. وأعتقد أن أي مقاربة مع دولة أخرى من النوع الذي عرفته ومستعد لأن يكون تابعاً في فلك بلادك، ستكون بداية الفشل في بلد كسورية. فلا يحب السوريون من يتدخل في شؤونهم أو يحاول التذاكي على استقرارهم الداخلي أو التدخل به، ولا الافتئات على مكانتهم الإقليمية، ولا يتسامحون في هذا.

أيها السفير، أستطيع أن أقول لك من دون أن يرف لي جفن إن سورية دولة من نوع خاص. الجغرافيا فيها تتكلم: هي عقد الوصل بين الشرق والغرب؛ بين آسيا وإفريقيا وأوروبا. كما أنها الدولة التي صنّعت أهم الأفكار السياسية وتياراتها في المنطقة لقرن خلا. وميراثها عبر أربعين عاماً من النوع السياسي الثقيل جداً.

هذه الدولة هي السر الشخصي لكل المنطقة؛ وأقولها لك بالإنكليزية: «we are the (own) secret of the region». نعم نحن العقدة والحل.

المعادلة لدى السوريين: أنهم يرفضون لدولة كسورية في قلب الصراع أن تكون مجرد تحصيل حاصل. فحياتهم السياسية (كرّ وفرّ)، لا يريدون أن يناموا في العسل. براغماتيون، نعم، ولكن بشرط أن يدرك الخصم أو العدو أن هذا لا يعني استضعافاً.

لديها، أي هذه الدولة، مدرستها في العمل السياسي: رصينة إلى أبعد حد. لها هيبتها. تتمتع بالصمت إلى حد كبير؛ لأنها تفضل العمل بصمت وعدم الاستعراض ولا تحب أن يقلل أحد من شأنها. تتكلم عند اللزوم كي تبعث برسالة تفيد بأن سقف صمتها قد اخترق وأن شيئاً ما يستدعي أن تقول علناً، وأن الرسالة هي: «لقد بلغ السيل الزبى».

لا تحب سورية من يملي عليها. لغة الإملاء ممنوعة من الصرف في دمشق. لذلك إذا كنتم جادين في أن قدومك، وفق تصريح رسمي للخارجية الأميركية، هو توجيه رسائل قوية!!! فهذا يعني أنك في المكان الخاطئ. أما إذا كان للتسويق الأميركي الداخلي فهذا شأنكم، لكنني أقولها لك بصراحة: ذلك التصريح أشعرني بأن وزن المحافظين الجدد وعلى رأسهم فيلتمان في وزارة الخارجية الأميركية سيجعل المهمة أصعب فأصعب، إذا كان المطلوب هو إعادة إنتاج لغة الماضي. وسأقولها لك بصراحة أكبر: «لقد فشلت سياسة المحافظين الجدد مع دولة منيعة وعنيدة كسورية، فلا تجعل فشلهم يضاف إلى ثقافتك الديبلوماسية».

أنصحك يا سعادة السفير أن تكون كالطيار الحاذق: طر مع التضاريس السورية، لا ترتفع كثيراً فتحلق بعيداً من الوقائع الموجودة، ولا تنخفض كثيراً وتتصرف من دون اعتبارات التضاريس حتى لا تصطدم بها، وأذكرك بأنه كي تقبلك الطبيعة عليك أن تنصاع لها. ستأتي إلى بلد يستشعر مواطنوه أن بلادك ذات تاريخ طويل في الانحياز لإسرائيل، يضاف إلى ذلك ما فعلتموه في العراق ولبنان ... فلا تتخيل للحظة أنك في مناخ شعبي مواتٍ. ثمة تجربة لعلك سمعت بها قامت بها طوعاً مواطنة تمتلك مطعماً تجاه ديبلوماسي أميركي بسبب سياسات بلادكم. لا أدري كيف ستتصرف إزاء هذا التاريخ، وهذا نوع من التحدي لذكاء ديبلوماسيٍّ ظهره مكشوف في الخارجية وأمامه عالم خارجي مثقل بأخطائها.

في السياسة السورية أعرّفك بلسر الشخصي لدى السوريين: إنهم لا يفاوضون إذا ما استضعفهم أحد. يقرأون المعادلات بدقة ويعرفون أن الحياة صراع وأزمات، وخصوصاً لسورية التي هي في بؤرة الصراع.

لا يذهبون الى حلول من النوع الإكراهي. إنهم يقرّون بأن حل الأزمات يكون أحياناً بأزمات أخرى. يجسدون معادلات قيادة الأزمات بالأزمات، والصراع بالصراع. لذلك فهم لا يخشون الصراع، لكنهم مستعدون للحلول التسووية شرط ألا تنال من مصالحهم. مستعدون للفر ثم الكر ولكن، على أن يكون ذلك ضمن (الأصول)؛ أي قواعد اللعبة. فمن دون قواعد واضحة أو معقولة للعبة، يحاولون أن يفرضوا قواعدهم، ويعاندون إلى أن تأتي لحظة من اللحظات تجعلهم يفرضون أو يتقاسمون قواعد للعبة، ويطرحونها على أنها بمثابة مقاسمة إرادات.

يحتوون نزق الدول الأخرى ولكن، انطلاقاً من أن على الطرف الذي تحتويه أن يعرف أنك تحتويه ولا يتوهم أنه يملي وأن عليك أن تستجيب إلى ما لا نهاية، وبالتالي عدم اعتماد مبدأ تقديم التنازلات، لأن التنازلات ستجر سلسلة لا تتوقف من التنازلات، وأن المسألة يمكن تلخيصها في لحظة ما بأن صدَّ المطالب أفضل من تقديم ولو الحد الأدنى من التنازلات التي لن تنتهي.

الأهم أن لديهم ضرباً من «عُصاب» القبول بسياسات الدول العظمى. فالسوريون يسيرون على حد الشفرة يوازنون مصالحهم بميزان القوى، وفي اللحظة المناسبة لا يردون على كل ما يأتيهم من مطالب أو مقترحات إذا كانت لا تتناسب مع مبدأ السيادة، الذي يراعي أبسط التفاصيل، بدءاً من وزن الرئاسة الذي لا يعتبر فيه الرئيس أن بلاده (وبالتالي مقامه) يقل عن أي دولة في البرتوكولات وشرعة الأمم المتحدة وإن كانت دولة عظمى، فالدولة هي الدولة، مروراً بتقاليد العمل «الثقيل» في الخارجية السورية الذي يتكلم قليلاً (حتى لا يلتزم بأكثر من المتاح، وكي يبقي لنفسه مساحة من «المسكوت عنه» وهو الأهم لضمان هامش الحركة).

أستطيع أن أنهي رسالتي بأن أتمنى لك تجربة مفيدة وإيجابية في دمشق؛ أقدم عاصمة في التاريخ. لذلك يشعر مواطنوها بأنهم في مركز العالم. وسواء كان هذا صحيحاً أم مبالغاً به إلاّ أنه جزء من تضاريس هذا البلد.

د. عماد فوزي شعيبي:  كاتب سوري - صحيفة الحياة

 

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.