تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

جرائم الشرف وداع غير مأسوف عليه

 

محطة أخبار سورية

 

وأخيراً صدر المرسوم التشريعي رقم واحد لعام 2011 بتشديد العقوبة إلى خمس سنوات على القاتلين بدافع الشرف، وقد جاء تتويجاً لسلسة من الجهود الحقوقية والتشريعية التي دأب على المطالبة بها حقوقيون كثر وعلماء شريعة، وهم يواجهون تقاليد الجاهلية التي استقرت في الفهم العشائري والقبلي، ودعمتها أفكار وتقاليد بالية لا تمت للإسلام بصلة، أباحت القتل بغير حق، وبررت لكثير من القاتلين ارتكاب جرائمهم بدم بارد بحجة غسل العار والدفاع عن الشرف.

وقد جاءت هذه الخطوة عقب خطوة سابقة أنجزتها القيادة العام الماضي بالمرسوم 38 لعام 2009 الذي ألغى ما كان يعرف بالعذر المحل الذي يعفي القاتل من أي عقوبة، وقرر النص التشريعي آنذاك أن القاضي غير مخول بتخفيف العقوبة لأقل من سنتين، والآن قرر أن يكون الحد الأدنى خمس سنوات على الأقل عند ثبوت المفاجأة التامة وعدم الترصد والعمد، وبذلك فقد وصلنا في تقديري إلى شاطىء العدالة، ولن يجد القاتلون بعد اليوم ما يتذرعون به من ذرائع لممارسة القتل.

لا يمكن القول إن مشكلة ما يسمى بجرائم الشرف قد انتهت، فالذين يرتكبون هذه الجرائم ربما لا يعلمون أصلاً بشيء من هذا السياق التشريعي، وهم يقومون بارتكاب الجريمة لدوافع لا علاقة لها  بالدين أو العقل، ولكن التطور الحقيقي اليوم هو أن هذا السلوك الشائن لن يجد بعد اليوم ما يبرره تشريعياً على الأقل.

وإذ أفرح بصدور هذا المرسوم الجديد، فإنني أتألم بالقدر نفسه لبعض المناهج التي لا تزال تدرس القتل في جرائم الشرف على أنه لون من القتل المباح، أو تبرره تحت عنوان فقهي محير باسم رد الصائل، وخلاصته أن الإنسان مأذون له أن يقاتل من دخل داره سارقاً لماله فكيف بمن دخلها هاتكاً لعرضه؟

والحقيقة أن هذا الاستدلال غير مقبول بالمرة، والأصل في رد الصائل هو رد البهيمة المعتدية سواء كانت كلباً أو بعيراً مملوكاً أو ضبعاً أو أفعى، فلو قتله المرء في داره فلا دية عليه ولا يحاسب على هذا، وجناية العجماء جبار، وقاس الفقهاء على قتل الصائل من الحيوان، قتل الصائل من الإنسان، إذا كان يهم بالرقة أوالاعتداء، فقد لا يستطيع المرء أن يطلب الغوث من الشرطة فيتاح له حينئذ أن يقاتل المعتدي كيف استطاع، ومع ذلك فقد نص الفقهاء أن الصائل لو أمكن دفعه بصيحة لم يجز ضربه بالعصا، ولو أمكن دفعه بالعصا لم يجز ضربه بحديدة، ولو أمكن دفعه بحديدة لم يجز ضربه بالسيف، وهذا وعي من الفقهاء الكرام بأن الولاية الممنوحة من الشرع للأفراد، استثناء، مقيدة بالدفع بأهون الشرين.

ولكن ذلك لا يمكن أن يكون قياساً صحيحاً في حالة القتل بدافع الشرف، حيث يمكن لصيحة أو حركة بسيطة أن ترد هذا الصائل ويولي الأدبار مخذولاً ملعوناً، وبعد ذلك فالشريعة أتاحت السبيل لمن يطعن في شرف امرأته أو قريبته عن طريق الملاعنة المعروفة أو، الإثبات بالبينات.

إن جريمة القتل بدافع الشرف تخالف الشريعة في ثلاثة أمور اعتبرتها الشريعة من الكبائر، وفي أمور متعددة أخرى نوجزها فيما يلي:

أولاً: هي إثبات للحد بغير بينة وهذا حرام، وهو من أشد الكبائر، وفيه عقوبة القذف على فاعله إلا إن كان المدعي زوجاً أو زوجة ففيه اللعان، ويحرم بعد اللعان اتهامها بشيء، ولا شك أن أي اتهام بغير بينة هو في الواقع قذف بالباطل وهو من الكبائر، قال تعالى: «والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون».

ومن أين لمن ارتكب القتل بحجة التهمة بالزنا أن تتيسر له إقامة البينة بعد فعل القتل؟ وكيف يتاح للمغدورة أن تدافع عن نفسها وتثبت براءتها؟ وقد تقرر في الشريعة أن لصاحب الحق مقالاً؟ ولكن هيهات أن تتمكن من تقديم مقالها وقد سبق إليها سيف القتل ولم تعد قادرة على الدفاع عن نفسها بأي وجه من الوجوه، وبأي وجه حق يفوض الناس بتنفيذ القتل سواء أكان قصاصاً أو حداً أو عقوبة محضة دون أن يمنح المتهم حق الدفاع عن نفسه أمام هيئة محايدة كما هو شأن القضاء في العالم كله، وهو شأن القضاء في الإسلام وفق منطق القرآن الكريم: «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين».

والبينة كما هو معروف أربعة رجال عدول يشهدون برؤية الفاحشة بشكل ينقطع فيه أي التباس، وفي حال تردد أي من الشهود فالجلد ثمانين جلدة حكم كل من يشهد صادقاً أو كاذباً.

ومن المقرر شرعاً أنه ليس للقاضي نفسه لو أنه رأى الفاحشة في زوجه إلا أن يلجأ إلى قاض آخر ليثبت عنده الزنا بشهوده الأربعة أو يلاعن حتى يدرأ عن نفسه حد القذف، فكيف يعذر الزوج بالقتل والحالة هذه.

ثانياً: هي حكم بالقتل بغير حق، حتى مع افتراض الفاحشة فالعقوبة المقررة في الشرع هي الجلد، وهي خاضعة من وجهة نظرنا للتغيير بحسب واقع الأمة والبحث عما يردع الزناة ويكفهم عن غيهم فكيف يمكن أن يأذن تشريع ما بالقتل في جناية غير محققة؟ وعقوبتها بعد القضاء ليست بالقتل؟

وهكذا فإنه فلا يحل أبداً إثبات الزنا إلا بالبينات الصادقات، من الشهود العدول، وهو أمر لا يتحقق أبداً في ظروف القتل بدافع الشرف الذي يحكم فيه الغضب والانفعال والتهور، وهذا كله مما ينافي روح القضاء والعدالة تنافياً كلياً.

وقد وقعت التهمة بالفحشاء مرات متعددة في عصر النبوة واتهم أزواج زوجاتهم بمواقعة الفاحشة، ولم يأذن النبي الكريم أبداً للزوج بقتل المرأة، بل كان خطابه واضحاً صريحاً بتحريم الإقدام على القتل تحريماً قاطعاً ووجوب التماس البينة ومن ثم اللجوء إلى القضاء، وعبارته لكل من اتهم امرأته دون دليل: البينة أو حد في ظهرك، فقد أكد أنه حتى مجرد اتهام المرأة لفظاً بذلك يعتبر أمراً موجباً للعقوبة فكيف إذا تم الإقدام على القتل؟.

وفي نص نبوي كريم راح سعد بن عبادة يعجب من هذا الحكم الشرعي: وقال بنزق: لو وجدت امرأتي مع رجل لقتلته وقتلتها، ولكن النبي الكريم لم يتردد إذ قال: إذن أقيم عليك الحد، وقال: انظروا إلى صاحبكم إنه لغيور ولكن اللّه أغير منه!!

ثالثاً: إنها افتئات على ولي الأمر وهو حرام، إذ المكلف شرعاً بإقامة الحدود إنما هو الدولة، بمؤسساتها القضائية والتنفيذية، ولا يحق لأحد أن ينوب عن الحاكم إلا بإذنه، وليس ذلك أبداً من شأن الأفراد أياً كانت غيرتهم واهتماماتهم.

والافتئات هنا إلغاء لدور القضاء الشرعي  ودور الدولة، وترك الحرية للأفراد للانتصاف بأنفسهم وهذا فتح لشريعة الغاب وإلغاء للقانون والنظام، ولا يجوز الافتئات على السلطان والتعدي على صلاحيات سلطان المسلمين، ومن قتل أحداً بغير حكم شرعي، وإنما قتله بموجب رأيه هو، فهذا يقام عليه القصاص إذا طالب ولي المقتول.

رابعاً: إن الأصل في الإنسان عصمة الدم، وقد قال رسول اللّه في حجة الوداع: كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، ولا تهتك نفس ابن آدم ولا عرضه إلا ببينة شرعية، والقتل هنا هو إهدار للعرض والنفس دون بينة، كما أن هناك هتك لعرضه وتشهير له دون بينة وكلاهما حرام. وجاء القرآن الكريم واضحاً في عقوبة القاذف دون بينة في قوله تعالى: «والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون».

خامساً: إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وربما بدا أن لهذا القانون منفعة للجاني بسلامة روحه ونجاته من القصاص، ولكن فيه مفسدة عظيمة للناس حيث يستهان بالقتل وتضييع حقوق الناس، وتتم تصفية أحقاد كثيرة للفرار من حقوق الوارثين وغير ذلك تحت غطاء الشرف، خاصة أن الضحية لن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها وشرح الأسباب الحقيقية التي دفعت القاتل للقتل، وهو مايشتمل على أعظم المفاسد.

من المؤسف أن تنص الشريعة على عقوبة ثمانين جلدة لمن قذف امرأة بلسانه دون دليل، ثم نتردد في فرض عقوبة رادعة لمن قذف امرأة برصاصة أو ساطور بدون دليل.

إن فرحنا بصدور هذا القانون لن يلغي مطالبتنا المستمرة بالتشدد في عقوبة مرتكبي جرائم الفحشاء من دعارة واغتصاب وزنا وسفاح قربى وهي مسائل جرمها القانون السوري ولكنها تحتاج لمزيد من التشدد لتتحقق حماية العفاف والفضيلة بأدوات القانون وليس بعادات الجاهلية.

 

 

 د محمد حبش

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.