تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

تل حلف.. (الجزيرة - رأس العين)

يقع تل حلف جنوبي غربي منطقة رأس العين (محافظة الحسكة) وعلى بعد ثلاث كيلومترات على الضفة الغربية لنهر الخابور، وأثناء حفر أهالي المنطقة قبوراً لدفن موتاهم بدأوا بالعثور على تماثيل ضخمة مصنوعة من الحجر البازلتي، وذلك في بداية القرن العشرين، وجرت هذه الحوادث بين أعوام 1906-1911 ووصلت أخبارها إلى أذني الديبلوماسي الألماني والمستشرق والخبير في أحوال البدو البارون «ماكس فون أوبنهايم»، ورغم أن اختصاص أوبنهايم كان في علم الإنسانيات وليس الآثار فإنه طلب اصطحابه إلى ذلك التل، حيث قام بعدة محاولات لسبر الآثار الموجودة في تلك المنطقة، والجزيرة السورية فيها مئات التلال الأثرية.

لكن أحداث الحرب العالمية الأولى أجبرت أوبنهايم على إيقاف حفرياته لمدة تقارب خمسة عشر عاماً، ولم يستطع العودة مرة أخرى إلا عام 1927 حيث تابع عملية الاستكشاف في تلك المنطقة حتى عام 1929، وقد نقل البارون أوبنهايم مكتشفاته وعرضها ضمن متحف خاص به (متحف البيرغامون) جنباً إلى جنب العديد من المكتشفات الأثرية الأخرى التي وجدها أو شارك في التنقيب عليها أو في الحصول عليها ونقلها إلى ألمانيا، ومعروف أن هذا المتحف، في جزيرة المتاحف في العاصمة الألمانية، يضم أيضا آثار مدينة بيرغامون الهلينية، وباب الآلهة البابلية عشتار وشارع الموكب، وأصبح بالتالي من أهم مراكز الجذب السياحي ببرلين.

وقد دلت التنقيبات الأثرية أن الاستيطان الآرامي في حوض الخابور بدأ منذ الألف السادس قبل الميلاد، ثم أصبح مستوطنة مزدهرة في الألف الخامس قبل الميلاد، قبل أن يغدو في مطلع الألف الأول قبل الميلاد، عاصمة لمملكة بيت بحياني. وكان حكم الآراميين في تل حلف الأقوى بين ممالك الشمال الآرامية، واتخذت (جوزانا) عاصمة لها آنذاك.

أقبل الآراميون إلى المنطقة واستقروا تحت قيادة قائدهم «والد كبارا» في موقع تل حلف وذلك نظرا لأهمية موقعها الجغرافي ووجود نهر الخابور وخصوبة أراضيها، وكشفت الحفريات مدينة صغيرة تعود إلى العصر الحديدي، لها مخطط مستطيل محاطة بنظام دفاعي من الأسوار المتضمنة أبراجا ذات مسافات منتظمة. تحيط المدينة الخارجية بالمدينة الداخلية والموجودة في الجهة الشمالية المركزية، والتي تقوم فيها الأبنية الهامة كالقصر والقلعة.

وقد أقام كبارا القائد الآرامي عاصمته «غوزانا» مستفيدا من بقايا الأبنية القديمة في إشادة بيوت المدينة وأسوارها ومن أهم تلك المنشآت قصره وكانت تزين واجهتها تماثيل ضخمة لآلهة آرامية تنتصب على حيوانات، وقد بينت التنقيبات الأثرية أن عاصمة «كبارا» كانت مستطيلة الشكل يحميها الخابور من أطول جوانبها أي من الشمال أما الجهات الثلاث الأخرى فتحميها أسوار وأبراج، ازدهرت مدينة غوزانا القديمة ولكن ما لبثت أن سقطت في يد الآشوريين عام 894 ق.م. ووثقها المستشرقتان المرموقتان زغريد هونكة وآن ماري شميل.

وتعود آثار تل حلف إلى قصر الملك الآرامي كابارا بن قاديانو، وقد شيد هذا القصر وفق المخطط المعروف باللغة الآرامية باسم «بيت هيلاني» أي البيت العالي. وهو قصر يحتوي على قاعة عرش مزينة بمنحوتات حجرية ضخمة، ونقوش بارزة، وبينها منحوتات للآلهة وأخرى لمخلوقات تجمع بين البشر والحيوانات، مثل الإنسان السمكة، الرجال الثيران، الأسود المجنحة، وشكل آدمي برأس أسد وغيرها. وعثر فريق اوبنهايمر على منحوتات بارزة على الجدران تضم مشاهد دينية ومشاهد قرابين، وقد وجد أيضا مدفنا ملكيا يحتوي على العديد من الأواني والتحف، وتعرض الآثار التي لم يأخذها أوبنهايمر معه في متحف حلب وبينها تماثيل للآلهة عشتار وهي تمتطي اللبوة والآلهة «حدد» ولوحات منحوتة.

لكن الحرب العالمية الثانية قضت على هذه الآثار إذ سقطت ضحية قنابل الحلفاء حطمتها إلى 27 ألف قطعة صغيرة، وتولت الباحثة ناديا كوليديز منذ عام 2001 الاشراف على عملية إعادة تجميع الشظايا في تماثيل. وتلقت كوليديز الدعم من قسم المعادن في جامعة برلين التنقنية باشراف البروفيسور كريستيان دروبل. وتقول الباحثة أن القطع الكبيرة والتي تميزها الأشكال والرسوم قد تم جمعها يدويا بعد عناء، لكن مشكلة الشظايا الصغيرة، غير المتميزة، تم التغلب عليها بتقنية فريدة من جامعة برلين. إذ استخدم دروبل وزملاؤه تقنية جزيئية للتعرف على الصخور وتجميعها من خلال كثافة مادتها، لونها، حافاتها....إلخ. وكانت النتائج مذهلة، ليس على مستوى إعادة ترميم الآثار، وإنما على مستوى تاريخ هذه القطع ومصدرها. وحسب الدراسات البرلينية الأخيرة، وفي ضوء التحلييل الجيولوجي للصخور، يتضح أن مصدر الصخور التي صنعت منها تماثيل تل حلف لم تكن من «الكبسة» (15 كم شمال تل حلف)، كما كان المكتشف الألماني ماكس فون اوبنهايمر يعتقد، وإنما من «بيت الشيخ» التي تبعد 60 كم. والأخيرة عبارة عن هضبة ترتفع في صخورها نسبة البازلت وتقع إلى الجنوب من تل حلف.

كما استعان العلماء الألمان بتقنيات وبرنامج حاسبي طورته المخابرات الألمانية للتعرف على الوثائق الممزقة والمتلفة يصور حافات وزوايا المزق الورقية ومن ثم يجمعها..

ويفتخر متحف البيرغامون ببرلين اليوم بإعادة افتتاح جناح متحف تل حلف على قاعاته تحت عنوان «مغامرة تل حلف» بعد مرور أكثر من 70 سنة على احتجابه عن الجمهور ويستمر المعرض حتى اغسطس (آب) المقبل، ووصف رئيس متاحف برلين أن ما حصل هو «معجزة» لأن الآثار المحطمة تم تصنيفها سلفا كآثار «لا فائدة منها».

فنتيجة لجهد عظيم استعان بالعلم والصبر وأحدث ما قدمته التكنولوجيا يستعرض متحف البيرغامون اليوم 500 قطعة أثرية من تل حلف تحتوي على التماثيل واللوحات الصخرية الناتئة والاشكال الصغيرة. وهي كنوز تعود إلى فترة 3000 قبل الميلاد وتؤرخ فصلا حضاريا من تاريخ الآراميين في الشمال السوري.

وقام وزير الثقافة السوري الصديق الدكتور رياض عصمت بافتتاح معرض تل حلف الأثري الهام في متحف بيرغامون برلين عاصمة ألمانيا، في 28-1-2011، وسط اهتمام وحشد أوروبي كبير.

وفي السجلات الرسمية يحمل تل حلف الآن اسم «تل الحضارة».

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.