تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

طارق القيزاني: لكل فرعون موسى

 

طارق قيزاني

تابع العرب نسخة مصرية طبقا للأصل لما حدث في تونس منذ أسابيع. وليس الملفت في الأمر مدى قدرة الثورة التونسية على تصدير نفسها بنفسها، بنفس الشعارات والآليات والأدوات، بقدر ما كان المفزع في الأمر ردات الفعل الحمقاء للأنظمة العربية الفاسدة والمتداعة واجترارها لنفس الخطابات الجوفاء حتى وهي على مشارف الموت والإندثار.

 

من الواضح أن الأنظمة العربية لم تتعض من الحركية التاريخية للشعوب والأنظمة ولم تفهم منطق التحولات في المجتمعات التي أشار اليها ابن خلدون وهيغل وماركس وغيرهم. والتاريخ ليس ببعيد، لم يستوعب العرب الدروس المستقاة من مصير الأنظمة الفاشية والكليانية في القرن الماضي ولا من استبداد الدولة المركزية في الكتلة الشرقية والفضاء السوفييتي ولا من المصير التراجيدي "للزعماء الآلهة" أمثال تشاوسيسكو وبينوشيه ولا حتى آخرهم بن علي.

 

من سخرية التاريخ ان ما تواجهه الأنظمة العربية اليوم على الجبهة الداخلية هو أخطر بكثير من مواجهاتها مع العدو الأول للأمة، الكيان الصهيوني، وأخطر أيضا من مواجهاتها التاريخية مع القوى الاستعمارية قبل حقبة الاستقلال.

ولا يتعلق الأمر بمدى شرعية تلك الأنظمة والحق البديهي للشعوب في تقرير مصيرها فحسب، وإنما أيضا بما يتكشف من هبوط أخلاقي وسياسي سافر لهذه الأنظمة من خلال الردة الفكرية والضحك على نضالات الشعوب ومكتسباتها ومن ثم الركوب على تلك النضالات واعادة انتاج لعصور الإنحطاط بعناوين عصرية.. الدستور ودولة القانون والمؤسسات والحريات والتعددية، وكلها على الطريقة العربية.

 

ليس من الغريب في شيء ان تجتاح الثورات الملونة والغاضبة تونس ومصر بالذات، فالدولتان كانتا من رواد الإصلاح الفكري والسياسي في القرن التاسع عشر، اي إبان قرون الإنحطاط. والدولتان قلبتا الأنظمة الملكية في سنوات التحرر والاستقلال من القوى الإستعمارية واقترنت النضالات فيها بالدعوات الى تشكيل الدستور باعتباره الضامن الوحيد لحقوق الشعوب والمرجع القانوني الأعلى المنظم للسلطة ودواليب الدولة.

 

ولكن، في السياق المقابل، لم يكن مفاجئا أيضا أن ينفجر غضب الجماهير في هاتان الدولتان بالذات، تونس ومصر، بعد أكثر من نصف قرن من استقلالهما، ليس ضد المستعمر وإنما ضد "انصاف الآلهة" الذين اختطفوا نضالات الآباء وتضحياتهم وكفروا بالدساتير والأمانة وساروا بشعوبهم عكس التاريخ، فتحولت الجمهورية الى ملكية خاصة والرأسمالية الزائفة الى اقطاعية حتى بتنا أمام نموذج مفلس يجمع بين الانفتاح الكاذب وطغيان العصور الوسطى.

 

صحيح أن الرئيس حسني مبارك كان بطل الحلقة الفارغة في الجيش المصري في حرب اكتوبر وصحيح أنه كان داهية السماء الذي حسم معركة العبور برغم الفوارق الكبيرة في سلاح الجو مع العدو الصهيوني آنذاك لكن ذلك لا ينفي حقيقة أنه يحمل في فكره ودمائه الجينات الفرعونية بل إنه يفوق حتى أعرق تلك السلالات، سلالة أمنحوتب وأخناتون، بدليل نجاحه في الثبات بمكانه لثلاثة عقود حتى بات رمزا، مثله مثل الإهرامات وتمثال أبو الهول.

 

وصحيح ان مبارك نجح في الحفاظ على لقب سلفه السادات كبطل للسلام لكنه أمعن في السلام حد السلبية والتطرف الى أن دجن مصر وشعبها بين جيرانها العرب وانتهى به الأمر إلى رفع الأسوار ضد الغزاويين لحماية سلام اسرائيل وسلام كامب ديفيد المقدس كمن يحمي قصور الأميرات. وليت ذلك كان بثمن يسكت به بطون المصريين، فلا نفع الاقتصاد ولا التشغيل ولا السكن، أما الرغيف فأصبح سلاحا أخضر تشهره حكومة رجال الأعمال بوجه ستين مليون مصري يعيشون على أقل من دولارين في اليوم.

 

ومع كل ذلك فإن حال مصر الذي يفطر قلوب كل العرب هذه الأيام لن تكون أبدا مرهونة بين أيدي الطغاة، فتاريخ تلك البلاد طالما أخبرنا ان لكل فرعون موسى. ومبعث هذا التفاؤل ان ما قبل مصر وبعدها يؤكدان ان صاروخ التغيير في البلاد العربية انطلق من منصته ولا مجال لعودته.

 

واذا كان الكثير من المؤرخين والفلاسفة، ومن بينهم ارسطو، يحددون قرطاج كبداية ظهور لنموذج دولة القانون والمؤسسات وكنقطة مفصلية في حوض المتوسط لبداية تشكل العلاقات الدولية في العالم فإن هذا التحديد يكاد يثبت نفسه عبر كامل مراحل التاريخ. فالأرض التي انطلقت منها ثورة الياسمين والحرية والكرامة ضد الطغيان والديكاتورية لتفوح بعبقها على الدول العربية هي نفسها التي صدرت الدستور بصيغته الحديثة منذ منتصف القرن التاسع عشر وهي نفسها التي قدمت مشروع الدولة الحديثة في ظل الانحطاط العثماني أيام المصلح خير الدين وهي وحدها التي دافعت بالصوت العالي عن حقوق المرأة وضمتها في قانون ثوري بمادة الأحوال الشخصية لتكون مرجعا للإصلاحات العربية لاحقا.

 

وتونس هذه التي نعرفها لا ترضى أبدا بأن يحكمها نمرود. فالتاريخ في هذه الأرض يخبرنا أيضا أن "كل جبار إذا ما طغى وسار في طغيانه يعصف، أرسله الله إلى تونس فكل جبار بها يقصف". ولكن اللذين حكموا البلاد على طريقة "آل كاوبويني" المافياوية لم يكونوا مدركين لقوة الشعب الذي يسوسونه بالحديد والنار وبالسرقات والنهب، ومن سوء حظهم أنهم فهموه في الوقت القاتل.

 

والملفت أن فيروس الفهم المتأخر الذي انطلق من تونس أصبح هذه الأيام مرضا مشاعا بين القادة العرب وكل من ادعى غير ذلك التهمته نيران الشوارع. فهل ستصمد اصلاحات الوقت الضائع أم ان العرض في الشوارع سيبقى مستمرا؟

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.