تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

حكماء.. وسابقون

 

محطة أخبار سورية

بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 تداول الغرب طرفة للتعبير عن عمق الأزمة التي سيبلغها العرب في المستقبل مفادها أنه أثناء إحياء الذكرى المئوية الأولى لتلك الأحداث اصطحب أمريكي طفله إلى ساحة منهاتن في نيويورك، وهي المنطقة التي كان فيها برجا مبنى التجارة العالمية فسأل الطفل والده متعجباً عنهما فأجاب الأب بأنهما برجان دمرهما العرب منذ مئة عام. وعندئذ استفسر الطفل مستغرباً ماذا تقصد بالعرب؟ فرد الأب «نعم.. إنهم مخلوقات كانوا يعيشون في تلك الفترة»!!

 

وكانت تلك نبوءة من البعض للتنبيه إلى أن وضع العرب إثر أحداث الحادي عشر من أيلول وما تلاه من أحداث هو أسوأ ما ُيمكن أن ُيصيبهم على الإطلاق لدرجة أنه قد ُيهدد وجودهم وبقاءهم في المستقبل!! ‏

 

ولكن ما زال العرب، كالعادة، يملكون القدرة على صنع المستحيل وابتكار المعجزات فكلما اعتقدنا أننا قد وصلنا إلى أسوأ أوضاعنا التي لم يسبقنا من قبل ولن يلحقنا من بعد إليها أي شعب آخر ُنفاجأ بأن العرب ما زالوا قادرين على ابتكار ما هو أسوأ من الأسوأ ذاته، والوصول إليه!! ‏

 

وهذا ما يكشفه بوضوح تأمل حال الأمة العربية المشغولة هذه الأيام باحتجاجات واعتصامات طالت أكثر من عاصمة، وباتت تهدد بإسقاط أكثر من نظام، وحيث غيّرت ترتيب الأولويات وبدّلت مفهوم الحقد والعداء و عمّقت الانقسام الداخلي حيث أصبح العدو هو الآخر الذي ُيفترض أنه مواطن من الدولة نفسها.. وربما من الأسرة والمنزل نفسيهما. ‏

 

علماً أن ما يجري في الشوارع العربية هذه الأيام ليس هو المسؤول بطبيعة الأحوال عن الحالة المزرية التي وصلت إليها الأمة العربية كون تلك الأحداث، في حقيقة الأمر، قد كشفت فقط عن عمق الأزمة ولم تنشئها. ‏

 

وفي اعتقادي أن ثمة ملاحظات أساسية ينبغي التوقف عندها واستخلاصها من هذه الأحداث وما رافقها من صور تلفزيونية وما أعقبها من تصريحات وتحليلات وتعقيبات وبيانات صادرة عن أكثر من عاصمة في قارات العالم المختلفة. ‏

 

وأولى هذه الملاحظات تتعلق بمدى النضج الذي وصلت إليه أنظمة الحكم في أكثر من دولة عربية وحيث بات واضحاً أن «المراهقة السياسية» لا تزال هي السائدة والمهيمنة برغم مرور عقود على ما ُيفترض أنه الاستقلال الوطني، إلا أنه من الواضح أن تلك العقود لم ُتكسب بعد بعض أنظمة الحكم النضج الواجب توفره واكتسابه، وحيث ما زال التعامل مع المنصب يتم وكأنه لعبة شخصية لا يجوز انتزاعها من الحاكم بأي وسيلة كانت، وتحت أي ذريعة أو مسوّغ وذلك تحت طائلة ممارسة مغامرة الانتحار الجماعي للأمة والتدمير الذاتي للدولة احتجاجاً وانتقاماً من الآخر، تماماً كما يفعل الطفل الذي يرفض التخلي عن دميته التي يؤمن أنها ملكه وحده وقد يصل به الحال إلى المبادرة بتدميرها وتحطيمها من تلقاء نفسه حتى لا ينتزعها منه أحد!! ‏

 

وهذا ما نستخلصه مما جرى ويجري في أكثر من عاصمة عربية مؤخراً علماً وينطبق هذا الحال على مَنْ ظل في الحكم عقوداً طويلة أو من ظل مجرد سنوات قليلة، وسواء أكان انتقال السلطة قد تم بصورة ديمقراطية وفقاً لأحكام الدستور وآراء نواب الأمة.. أو بمقتضى احتجاجات شعبية جمّعت الأمة كلّها على رأي واحد.. فالنتيجة واحدة في كل الأحوال!! ‏

 

وأما الملاحظة الثانية التي ينبغي استخلاصها، فهي تتعلق بموقف الغرب من بعض أنظمة الحكم الموجودة والمدعومة منه في الشرق، فللمرة الألف يتأكد حكم التاريخ وتجارب أنظمة الحكم الأخرى التي كشفت عن قاعدة باتت بدهية وهي أن الغرب يدعم بعض أنظمة الحكم في الشرق التي تحقق له مصالحه وتصونها وتذوب في تبني سياسته وتنفيذ استراتيجيته الخاصة مادامت تلك الأنظمة قويةً على الأرض وقادرة على إحكام الضبط والسيطرة، وفي سبيل ذلك يتم التغاضي كثيراً عن كوارث السياسة الداخلية لتلك الأنظمة، من فساد وعنف إلى ما هو أسوأ من هذا وذاك.. إلى أن يبدأ الحاكم بالضعف وتبدأ مقومات سلطته بالتأرجح والاهتزاز منذرةً بقرب الزوال والانتهاء.. فعندئذ لا يتخلى الغرب عنه فحسب، مكتشفاً فجأةً كل فساده وفضائحه المستمرة منذ عقود، وإنما يساهم أيضاً في إزاحته واستبداله على أمل أن يأتي بخلف له يواصل سياسته، ويستمر بها مع قبول إدخال بعض التغييرات الشكلية لامتصاص نقمة الداخل ضمن أضيق الحدود، وبما لا يمسّ الثوابت الكبرى. ‏

 

فالبديل الأفضل للغرب هو الحاكم التابع في الشرق مادام قوياً فإن ضعف فلا يتم التخلي عنه فحسب وإنما تتم أيضاً المساهمة بإزاحته واستبداله على أمل الإتيان بخلف له يواصل المسيرة. ‏

 

فالمهم ليس تبدل الأشخاص وإنما ثبات السياسات.. والأهم ألا يأتي أو يتسرب نظام حكم غير مقبول أو مدعوم غربياً لأنه عندئذ قد «يتورط» بالفعل بارتكاب جرم الاستقلال وخطيئة السيادة وكارثة السعي لتحقيق المصلحة الوطنية الحقيقية.. وهذا ما لا ُيمكن قبوله.. أو السكوت عنه!! ‏

 

والملاحظة الثالثة التي ينبغي التوقف عندها فهي تتعلق بغياب المنظومة الإقليمية العربية وأعني بذلك جامعة الدول العربية التي بدت، كالعادة، غائبة عن كل ما يحدث حالياً وكأنها غير معنية به مكتفيةً بشعارها الخالد «لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم» برغم أن بعض ما يجري لا يبعد عن مبناها أكثر من عشرة أمتار فقط، وحيث إنه من المستحيل ألا تراه.. ومن غير المنطقي ألا تسمعه، وإن كانت بحكم العادة ستلتزم الصمت ولن تتكلم!! ‏

 

فهل من المنطقي أن يستمر تغييب دور هذه المنظمة العربية العريقة، على الأقل، بحكم أقدميتها باعتبار أنها سبقت، بأشهر قليلة، إنشاء منظمة الأمم المتحدة وسبقت أيضاً، بسنوات عديدة، إنشاء الاتحادين الأوروبي والإفريقي، وإن كانت كل تلك المنظمات قد تجاوزت لاحقاً منظمتنا العتيدة بعقود لاحقة مكتفين نحن بسمة العراقة والقدم التي لا تغني ولا تسمن مادامت لا ُتساهم في حلّ أزمة ولا تنجح في تسوية نزاع. ‏

 

ولو أن أزمات كبرى كالتي تشهدها بعض دولنا العربية قد حدثت في أي دولة أوروبية أو افريقية فهل كانت منظماتهم الإقليمية ستكتفي بمجرد المتابعة والتأمل كأي مراقب أو غريب أم أنه سيكون لها دور ايجابي بالتدخل والمبادرة لتسوية الأزمات وحسم النزاعات لتجنب المزيد من الخلافات والانقسامات، وهذا ما حدث في أكثر من حالة سابقة في القارتين الأوروبية والإفريقية على حد سواء؟!! ‏

 

وهو ما يتطلب من العرب أن ُيعيدوا النظر والتفكير بمنظومتهم الإقليمية على أمل أن يحسموا خياراتهم بشأنها، فهل هم راغبون بها حقاً ويريدون فعلياً إدخال إصلاحات جذرية على هيكليتها وآلية عملها لتفعيل دورها كما أشاروا في مؤتمر القمة الأخير في سرت؟ أم إنهم، في حقيقة الأمر، سيكتفون بدورها الشكلي الحالي، وسيحافظون عليه لمجرد درء الحسد وذرّ الرماد في العيون؟!! ‏

 

وهل المشكلة تحتاج فعلياً لإدخال تعديلات على الميثاق وإنشاء المزيد من الأجهزة الجديدة؟ أم أن الإشكالية ترتبط بمبدأ الإرادة؟ ‏

 

وهو ما يذكّرني بقضية لفتت انتباهي أثناء مشاركتي مؤخراً في أحد المؤتمرات الدولية في الجزائر حيث لاحظت حضوراًً كبيراً للعديد من القادة التاريخيين في القارة الإفريقية وعندما استفسرت عن هذا من أحد السفراء العرب الذي صدف أن جلست بجواره أجابني بأنه سينعقد على هامش المؤتمر اجتماع للجنة «حكماء إفريقيا» وهو تجمع يضم بعض الحكماء من قادة إفريقيا السابقين هدفه التدخل الفوري والسريع من أجل التوسط لتسوية أي نزاع ينشب في القارة الإفريقية.. وقد أثمرت جهودهم بالفعل عن تجنيب قارتهم العديد من الأزمات الكبرى. وقد وجدت أنها بالفعل فكرة جذابة ومهمة، وُيمكن أن ُتساهم في تجنيب أمتنا العربية أزمات مماثلة.. وعندما استفسرت من جاري السفير عن مدى إمكانية التفكير بإنشاء لجنة مماثلة لدينا حيث تضم أيضاً بعض «الحكماء من القادة السابقين» لتؤدي الدور ذاته في عالمنا العربي، و للأمانة فقد استمع مني باهتمام بالغ ثم غادرني مسرعاً من دون إبداء أي ملاحظة أو تعليق وعلى وجهه ابتسامة عريضة لم ُأدرك بعد إن كانت ُتعبر عن شكوكه بوجود «حكماء» أم شكواه من عدم وجود «سابقين» في عالمنا العربي!! ‏

 

علماً أن كليهما سبب حقيقي للأزمات الكبرى التي نشكو منها حالياً، وسنظل نشكو منها مستقبلاً إن لم نتغير... أو ننقرض.. وفقاً للنبوءة الأمريكية. ‏

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.