تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

في انحدارنا

 

أحسب أن كل ألوان السجادة السورية المطرزة بالتاريخ كانت حاضرة في جنازة السينمائي – الصرخة عمر أميرلاي، فجل المخلصين من اليسار إلى اليمين مروراً بالوسط، جاؤوا كي يعبروا عن احترامهم لهذا السينمائي الذي كان مختلفاً في كل شيء حتى في الموت.
في طريقه الصاعد إلى الحقيقة، جاريناه حتى مقبرة الشيخ إبراهيم، في سفح قاسيون. بعدها انحدرنا نحن على حين واصل هو رحلة صعودٍ من نوع آخر إلى حقيقةٍ من نوع آخر.
في انحدارنا، رأيت واحداً من أبناء جيلي يجر رجليه بتثاقل، كان شارداً شديد الشحوب كما لو أن عمره قد لحق به فجأة، فهرم دفعة واحدة. بعد سلام مقتضب سألته عما به، فحدجني بنظرة مائلة ثم نفض يده وغمغم كما لو أنه يتابع حواراً بدأه مع نفسه. «... يبدو أن الكراهية أقوى من الموت».
فاجأتني كلماته فلذت بالصمت إذ لم أجد ما يمكن أن أعلق به، تابع بوحه لنفسه: «تصور أنني في مدخل المقبرة، وجدت نفسي مع (فلان) وجهاً لوجه، بدا لي خائفاً إلى حد الذعر فسلمت عليه من باب الاحترام للميت، فما كان منه إلا أن قال لي بكراهية مخيفة: «لا تسلم علي! أنت مجرد مستوطن تساوي نصف فرنك».
لم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك. فتوقف الرجل عن السير ورمقني بنظرة مؤنبة. ابتلعت ضحكتي قلت بجدية تامة «أعتذر»، لكنه من المضحك، أن يصفك (فلان) بأنك مستوطن، فلونك من حبة القمح التي زرعت لأول مرة في التاريخ في منطقة «أبو هريرة» حيث يقع سد الفرات الآن، أما هو فله لون وشكل وروح الكراهية التي كان يحملها الفارس الإفرنجي أرناط «رونو دي شاتيون» الذي كان يسلب قوافل الحجاج في طريقهم إلى مكة والذي قتل على يد القائد صلاح الدين الأيوبي!.
اغتصب الرجل ابتسامة، تابعت مستعيداً كلمات لي كنت قد كتبتها منذ سنوات: «كذلك نحن؛/بعض عناصرنا تنحدر بنا إلى التراب/ بعضها يطمح أن يوحدنا بنور الله! /نهاية الكراهية مستطيل من تراب/ بداية الحب فضاء من نور!»
هز الرجل رأسه متفكراً، قلت له: «لست أفهم لماذا يكرهك الرجل إلى هذا الحد؟ فقد عاش حياته كلها يقلدك في كل شيء». هنا ارتسمت على وجه الرجل ابتسامة أشبه بالتكشيرة، قال وهو يحدق في الفراغ: «ربما كان هذا هو السبب، فلا أحد يكرهك، مثل ذاك الذي أخفق في أن يكون إياك». صمتنا لبعض الوقت فشرد مع أفكاره. «بماذا تفكر؟» سألته. أجابني «أتذكر الفقرة التي ختم بها برتولد بريخت قصيدته (إلى الأجيال القادمة) التي يقول فيها:
«آه، نحن الذين أردنا أن نُمَهَّد الطريق للمحبة/لم نستطع أن يحب بعضنا بعضاً/أما أنتم/ فعندما يأتي اليوم/ الذي يصبح فيه الإنسان صديقاً للإنسان/فاذكرونا/ وسامحونا».
قلت في سري: عسى أن يأتي ذلك اليوم، حتى لو نسيتنا الأجيال القادمة ولم تسامحنا.

حسن م. يوسف

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.