تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

رحيل مبارك...سقوط العصر الامريكي

 
 
 
 

 

درهم علاقات مع أمريكا خير من قنطار علاقات مع الناس!! هكذا ظلت سياسة مبارك تحكم قراراته منذ تولى السلطة قبل ثلاثين عاماً بعد مقتل سلفه السادات في منصة العرض العسكري.

 

حين قام بمطاردة قوى المقاومة، وفتح أبواب مصر للسماسرة والمقاولين والمقامرين بحياة الأمة كان يظهر موهبة غير عادية بتلبية المطالب الأمريكية، وكان أعرف الناس بالإرادة الأمريكية، يكاد لعلمه بالدهر يدري اليوم ما يأتي غداً، كان بارعاً بقراءة شفاه الساسة الأمريكان وخواطرهم وأمانيهم ورغباتهم، وكانت تلك الرغائب تجد سبيلها دوماً إلى قرارات قصر القبة، ومراراً قال للساسة العرب: أولها أمريكا وآخرها أمريكا، ونحن نتسول حقوقنا في البيت الأبيض! وبدت أمريكا لعقود متتالية بمثابة صانع القرار في الشرق الأوسط، حيث تنضبط على إيقاعها أرض الكنانة بكل ما فيها من تاريخ وهول، وخيل للناس أن الإدارة الأمريكية هي المتصرف بالكون وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين!!

 

ومع ذلك فحين انفجرت مصر كلها بالغضب، وخرجت الملايين إلى الشوارع ترفع صيحة الغضب ظهر على الشاشة ليقول للناس: لن أسمح أبداً بالتدخل الخارجي في شؤون مصر!

 

لقد أثبت للعالم أن الطغاة لا يستحون، على الرغم من أن الرجل كان في الواقع يختزن في سلوكه وقراراته كل أشكال الارتهان للأجنبي وبشكل خاص الأجنبي الأمريكي الذي باعه بلا تحفظ كل الأمن القومي المصري وكل المشهد السياسي لمصر. ومع ذلك فقد كان الأمريكي أول من تخلى عنه وطالب برحيله بكلمات واضحة:  ارحل الآن وليس في سبتمبر!!!

 

ليس لي عند مبارك دين ولا ثأر، مع أنه تسبب في انقطاعي عن إذاعة القدس أسبوعين اثنين  حين استنفرت الإذاعة لمتابعة ترنح نظامه وسقوطه، ولكنني كنت واحداً من مئات الملايين في العالم الذين تركوا أشغالهم وعكفوا على التلفزيون يتابعون ما يجري في مركز الكرامة العربية في ميدان التحرير، وهم يلتمسون في كل لحظة نبأ رحيل الطاغية الذي تفنن في الترنح والخيبة والعنتريات قبل ان يسقط سقوطه المدوي وتطارده لعنات المصريين في كل كور ودور.

 

من وجهة نظري ليس الجوع والفقر وحده هو من حشد الناس لمقاومة هذا الطاغية، إنها باختصار كرامة مصر الجريحة التي رهنها الرجل بالكامل في هوى أمريكا وإسرائيل، تحت عنوان حماية الأمن القومي المصري، لقد ظل الناس في مصر يشاهدون جرائم إسرائيل في غزة وعدوانها على الناس، ولكن المصريين لم يؤلمهم هذا العدوان كله بقدر ما كان يؤلمهم ظلم طاغوتهم الذي حول الجيش المصري إلى حارس للاحتلال، وسخر طاقاته وإمكاناته في مصالح الصهاينة.

 

خلال سنواته الأخيرة أعلن عن اكتشاف عشرات الخلايا المقاومة التي نسبها إلى حزب الله وإلى حماس، وأحالهم إلى سرادق الهول والعذاب، ومع أن شعب مصر كان يرى في هؤلاء الرجال الأبطال الذين يصنعون مجد مصر وتاريخها، ولكن الطاغية أدار ظهره لكل آمال شعبه وأمانيه، واختار رضا السيد الأمريكي، وأخلص في محراب التوسل إليه حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون!! واقترب الوعد الحق، فما أغنت عنهم آلهتهم التي كانوا يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب.

 

ما الذي كان يدخره هذا الطاغية لمستقبله؟ وكيف سيذكره التاريخ؟ وأين ستكتب أمجاده في قهر غزة وخنق المستضعفين على معبر رفح، وحين عجز عن بناء السد العالي كما فعل زعيم مصر العالي، فقد قام بناء السد الواطي تحت الأرض بالحديد والفولاذ لمنع الحياة عن أنفاق غزة، وهل كان من العقل أن يختار المرء مكانه في التاريخ بين أبي رغال وابن سلول؟

 

المطلوب ليس فقط أن يعلم الطغاة أنهم غير قادرين على الخلود، بل المطلوب أيضاً أن تعلم أمريكا أنها ليست قادرة على حماية رجالها مهما تغولت قوة ونفوذاً وقهراً، وأن كل برامجها في وكالة السي أي إي الجبارة لن تستطيع أن تغير شيئاً من إرادة الشعوب، إذا الشعب يوماً أراد الحياة.

 

حسني مبارك آخر الطواغيت الراحلين اليوم على معبر الذل إلى برزخ القهر والتربص والاكتئاب، وهو اليوم يتقلب بين القهر والخوف وكأنه لم يقرأ شيئاً على الإطلاق من درس التاريخ الذي عصفت أهواله بالطغاة من لدن فرعون إلى شاه إيران إلى موبوتو إلى صدام إلى بن علي.

 

يقول مبارك: إنه يقود حزباً يبلغ أعضاؤه ثلاثة ملايين ونصف مصري!! والسؤال أين كانت هذه الملايين المزعومة؟ إن البلطجية الذين جاؤوا بالفعل يدافعون عنه إلى ميدان التحرير على البغال والبعير كانوا بضع عشرات، ولا أظن أن لئيماً في الدنيا يباهي بفريق أسود مجرم كهذا الفريق السوء!

 

ولم تكن له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً.

 

وعلى الرغم من الدرس الهائل المدوي الذي حبس أنفاس العالم كله ثمانية عشر يوماً، فإنني أجزم بأن الطغاة لا يتعلمون شيئاً، إلا من  كيس أنفسهم، وقديماً قالوا: المعلمون ثلاثة: الكتاب يعلم، والمدرسة تعلم، والدهر يعلم، والدهر أقسى المعلمين!!

 

سيعلمون وبعض العلم كارثة    إذا تربد وجه الدهر وانتصفا

 

حين وقعت نكبة البرامكة وألقي بهم في ظلمات السجون قال يحيى لأبيه خالد بن برمك: يا أبت... أترى هذا الذل والقيد بعد الملك والسلطان؟ قال يا بني: لعلها دعوة مظلوم سرت بليل، نمنا عنها ولم يغفل عنها الله!!! كم مظلوم في غزة أيها الطاغية!! تنام عينك والمظلوم منتبه   يدعو عليك وعين الله لم تنم

 

 ويوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم.

 

                                                                                                                     د.محمد الحبش


--
 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.