تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

من يقرأ لثوار الأرز؟

 

يوم كان جفري فلتمان ينظِّر لنواة 14 آذار ونشوئها وقيامها، كان يحرص على أن يشرح للمبتدئين من ثواره كل تفصيل وكل هامش. حتى الاسم أو «الماركة المسجلة» خصّص له وقتاً للشرح والإفهام. قبل أن يُصدر أمره النهائي: ممنوع استخدام عبارة «انتفاضة الاستقلال»، التي كانت قد ابتكرتها نايلة معوض، وصارت تتندّر بحق ملكيتها الفكرية لها مع عائداتها الكاملة لاحقاً. لكن الخبير العزيز جيف حسم النقاش يومها: مفردة «انتفاضة» تذكّر في الغرب، وعندنا خصوصاً، بالفلسطينيين وحركاتهم التخريبية. وهذا أمر قد يعيق دعمكم، ولو لأسباب نفسية، في الإعلام والسياسة والرأي العام. لذلك قررت تسميتكم، بل عمدتكم باسم: «ثورة الأرز». فهي تسمية أكثر قبولاً لدينا، كما أن رأينا العام و«جهازنا» الإعلامي قادران على تسويقها أكثر، نظراً إلى كونها امتداداً لنهج «الثورات الملونة» الذي بدأناه منذ أوكرانيا...
المهم يومها، كان فلتمان يشرح لثوار الأرز، من ضمن دروسه التثقيفية، أهمية ما كان يسميه في السياسة والفعل والحدث: «مومنتوم»، أو ما يمكن ترجمته باللحظة أو الفرصة أو السانحة أو الريح المؤاتية أو كل ذلك معاً. وكان جيف يركّز على جوهرية «التقاط المومنتوم». هكذا، منتصف سنة 2005، فرض على ثوار أرزه خطوات «الانتخابات الآن»، ومن ثم «بأي قانون انتخابي»، وبعدها «تأجيل موضوع إميل لحود»، إلى غيرها من الخطوات. كان جيف مستعجلاً، بقدر ما كان قارئاً للسياسة الدولية، وواقعياً وبراغماتياً.
وكان جيف على حق. فبعد أقل من سنة انتهى المومنتوم. في خريف 2006، أدرك حائز الأوسمة الاستخبارية أن الفرصة أقد أفلتت. قرأ نعيها بوضوح في أكثر من مؤشر على أكثر من صعيد ومستوى: محلياً عجز ثواره عن إنجاز الانقلاب الكامل. إقليمياً، نتيجة حرب تموز العسكرية والنفسية والإعلامية والسياسية، فضلاً عن تملّص بشار الأسد من حبل المشنقة الأميركي، لأسباب كثيرة تراوحت بين تركيا وإسرائيل، مروراً بالداخلين السوري واللبناني. وهو ما لم يلبث أن تُرجم دولياً سلسلة عوامل متراكمة، من فرنسا شيراك التي صارت تتلهّى بفضائح حكامها بدل طموحات صديق رفيق العزيز، وصولاً إلى واشنطن نفسها، التي راحت يومها تتهيّأ لتتويج جنائزي يليق بالانقلاب على سياساتها السابقة. فجاءت فرعية تشرين الثاني من ذلك العام لتطيح البوشيين في الكونغرس، فيما كان المحافظون الجدد يتلون فعل ندامتهم على سطور الكاتب دايفيد روز في بحثه التاريخي عن هزيمة حلمهم، في عدد «فانيتي فير» من الشهر نفسه...
مرحلة طُويت، لنكتشف يومها أن فلتمان بقدر ما لقّن ثواره أهمية التقاط «المومنتوم»، نسي بالقدر نفسه أن يعلّمهم الدرس الآتي: ماذا تفعل حين يفوتك المومنتوم أو عندما يموت؟ فترك ثواره بلا مدونة سلوك، بلا استراتيجية خروج، بلا طوق نجاة، بلا حتى كلمة عن مكان سترة النجاة تحت مقاعد سلطتهم المترنحة. فراحوا يرتجلون، حتى كانت 5 أيار، وما قبلها وما بعدها، من كارثة على الجميع، كارثة من النوع الذي لا ينتج إلا المهزومين، وأشدهم هزيمة من يخرج بانطباع المنتصر...
يحتاج «ثوار الأرز» اليوم مجدداً إلى من يزوّدهم بالملحق الفلتماني الضائع: المومنتوم، عوارضه الجانبية بعد انتهاء صلاحيته، وكيفية التخلص منها. والملحق المذكور يفترض أن يبدأ بمن يقرأ لثوار الأرز معالم انتهاء المومنتوم الثاني، أو المومنتوم السوري، بعد خمسة أعوام على انتهاء الملحق اللبناني، علماً بأن عوارضه لا تقل سطوعاً. الداخل السوري في حالة ستاتوكو، فيما غليون وسيدا وصبرا وربما الخطيب، يتجهون إلى التقاعد وكتابة المذكرات، قانعين بما قسمه الله من أرزاق. السعودية تغرق تدريجاً في مستنقعَي صراعات قصورها من جهة، وقصورها عن فهم عنفوان القطيف من جهة أخرى. «إمبراطورية قطر العظمى»، كما يسميها الإبراهيمي، باتت ملحقة بصورة محمد مرسي. تركيا تستعد لتحولها «تركيات»، لم يكن ينقصها لعنونة وضعها إلا صواريخ منصوبة للدفاع وارتفاع نسب الانتحار داخل «فئة» معينة من جنود قواتها المسلحة. إسرائيل لم يعد لديها «جنرال» واحد، وإيران تتعامل مع البيت الأبيض والنووي تعاملها مع نسج سجادة عجمية... فيما الأساس أن حلف واشنطن مع أحفاد حسن البنا انكسر في مكان ما. أكان في حرب غزة الأخيرة أم في 11 أيلول بنغازي أم في الصراع الإخواني مع آل سعود... الواضح أن الحلف انكسر، وأن المشروع انتهى قبل أن يبدأ. واشنطن تعيد تموضعها بالكامل، وما كان ناقصاً لتأكيد الخبر قدّمته السيدة كلينتون بخبطة يدها مراراً تعبيراً عن ضيق صدر وتبرّم وانكسار، أمام مستجوبيها في الكونغرس الأسبوع الماضي. لحظة تحولت الجلسة إلى ثأر حزبي مقلوب، من جمهوريين انتظروا تلك اللحظة، أو «المومنتوم» المعكوس.
في نهاية مومنتوم بيروت تحول فلتمان من سياسة «تغيير النظام السوري» إلى سياسة «تغيير سلوكه». ومع نهاية مومنتوم دمشق، بدأ التحول من «تغيير النظام» إلى «تغيير قيادته». وفي الحالتين ثمة كارثة قد تهدّد الوضع اللبناني، ما لم يبادر ثوار فلتمان إلى الإدراك والاستدراك. لمعلوماتهم فقط: أولاً، وجودهم ضروري للتوازن. لكن انتحارهم لا يُسأل عنه سواهم. ثانياً، وليد جنبلاط مشغول بنفسه هذه الأيام، ولا وقت لديه لقيادتهم أو القراءة لهم والشرح والتلقين بملاعقهم _ ولو ذهبية _ ولا جهد يضيّعه عليهم. فما سمعه في موسكو يفرض عليه التصرف بسرعة. وما بدأه في مسرحية عاليه قبل يومين من مزايدة ثورية، ليس إلا من باب «توسيع الكوع» عند انعطاف قاس قادم. أما نبيه بري وقانون الانتخاب، فنصيحة، دقّقوا في حرفيّة ما قيل لكم عن لسانه. هل قال إنه يرفض أن يدعو إلى جلسة نيابية لا تتوافر فيها شروط النصاب الميثاقي لإقرار قانون جديد للانتخابات؟ أم قال إنه لن يترأس جلسة كهذه؟ ففي الحالة الثانية، مقاعد النواب يحبّها الرئيس «الحركي»، وتمنّع مكاري لا يضير لقب دولة الرئيس لرئيس السن عبد اللطيف الزين، ولو لمجرد دقائق وجلسة...
علماً بأن كل هذا السيناريو كارثة. لأن ثوار 14 آذار، بجنونهم وأخطائهم وخطاياهم، ضرورة. على الأقل كي لا ينشطر وطن الأرز بين الحزام الناسف في إمارة طرابلس، إذا اجتازت سيارة اعتصامه، وبين جمهورية لاسا الإسلامية، إذا وقع حادث سير على تخومها والثغور... ضرورة هم، بمقدار أن يقتنعوا بعدم النحر عند أي «مومنتوم»، وبعدم الانتحار عند فواته.

                                                                                                                                  جان عزيز

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.