تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

"الرابحون"و"الخاسرون" في التفاهمات الأميركية – الروسية حول سوريا

 

 

                                                                                                                         ** عبد الهادي محفوظ

 

 

في زمن الامبراطورية الروسية كانت كاترين الثانية تعتبر أن سوريا هي مفتاح موسكو لتؤكد أهمية موقع دمشق الجيوسياسي في المنطقة. وفي زمن الإتحاد السوفياتي كانت مظلة موسكو فوق سوريا تحمي المصالح السوفياتية والتوازنات الأوسطية. وأما سقوط الإتحاد السوفياتي فاستتبع اعتماد الرئيس الراحل حافظ الأسد سياسة وقائية ارتكزت على الإستقلالية السورية وعلى الأخذ في الإعتبار للمتغيرات الدولية وعلى إرساء علاقة استراتيجية بإيران وحزب الله وعلى محاولة إحياء التضامن العربي عبر معادلة ثلاثية محورها دمشق – القاهرة –الرياض. لكن مع المحافظين الجدد ووصول جورج بوش الإبن إلى الرئاسة الأميركية، برز عامل جديد في السياسة الأميركية وهو استخدام الآلة العسكرية لأهداف سياسية كما حصل مع الإحتلال الأميركي للعراق. وفي سياق هذه السياسة حاولت الإدارة الأميركية مد النفوذ الأميركي إلى الداخل السوري عبر الشروط التي سعى وزير الخارجية الأميركي كولن باول فرضها على الرئيس السوري بشار الأسد الذي رفض هذه الشروط بقوة وعناد.

وحقيقة الأمر فشلت السياسة الأميركية الأحادية في صياغة مشروعها في إقامة شرق أوسط كبير مع الرئيس جورج بوش. وكان الخروج العسكري الأميركي من العراق مع الرئيس باراك أوباما تعبيرا عن تراجع المشروع الأميركي وانكفاء نحو معالجة مشاكل الداخل الأميركي وتحضيرا للإنسحاب من أفغانستان ومن الخيارات العسكرية. لكن بروز ظاهرة "الربيع العربي" دفع جانبَين لاستثمار هذه "الظاهرة" والتي جاءت مفاجئة: من جهة الولايات المتحدة الأميركية ومن جهة ثانية تنظيم القاعدة. فواشنطن لا يمكنها أن تكون خارج المتغيرات البنيوية الطارئة. و"القاعدة" وجدت مناسبة لركوب موجة "الربيع العربي"للدخول على الإحتجاجات السلمية المعارضة وأخذها باتجاه العنف وللربط بين ما تسميه مواجهة"العدو البعيد" المتمثل بالولايات المتحدة الأميركية و"العدو القريب"المتمثل بالأنظمة. لكن الحسابات الأميركية أخطأت في الموضوع السوري، ذلك أنه تبيَّن أن النظام السوري أقوى مما تصورت الإدارة الأميركية... كما أن التنظيمات الإسلامية المتطرفة هي الأبرز في المعارضة السورية وهي الأكثر ارتباطا بتنظيم القاعدة وبالتالي تعتبر أن سوريا هي المكان المثالي لانتشار القاعدة وللإمساك بالهلال الخصيب... ومن هنا فإن التفاهمات الأميركية – الروسية كان من عناوينها الأساسية جذب موسكو لواشنطن للتلاقي على شعار "مواجهة الإرهاب في سوريا"، أي سقطت الأولوية الأميركية التي كانت تتمثل بشعار إسقاط النظام وتنحي الرئيس بشار الأسد. وهكذا ترتبت على التفاهمات الأميركية – الروسية نتائج بالغة الأهمية منها سقوط الخيار العسكري الأميركي – الأوروبي– الخليجي – التركي، ومنها دخول موسكو وبكين على التعددية القطبية الدولية، ومنها رسم خريطة جديدة لنظام دولي واقليمي يرتكز إلى التعددية القطبية، ومنها الإعتراف بايران كلاعب إقليمي أساسي، ومنها كون الحدث السوري هو وراء التفاهمات الأميركية – الروسية وما يعنيه ذلك من أن الحل السياسي هو في مصلحة النظام السوري، ومنها بروز التوترات في العلاقة بين مكونات المعارضة وتحديدا بين الجيش الحرّ والتنظيمات الإسلامية المتطرفة المرتبطة بـ"القاعدة"، ومنها أن تركيا والسعودية وقطر كانت الدول المتضررة من التفاهمات إذ وضعتها خارج "الملعب الاقليمي" وترتيباته. كما أن هذه التفاهمات استدرجت تحولا في الموقف الأوروبي يخدم فكرة "الحل السياسي" والإنفتاح على النظام السوري.

 

ماذا تعني التفاهمات الأميركية – الروسية؟ لا تعني بالضرورة أن جنيف – 2 سينعقد قريبا وأن توقيته لا زال افتراضيا. على الأرجح أن المواجهات العسكرية هي الغالبة. فالجهات الاقليمية المتضررة من التفاهمات ستلقي بثقلها وراء المعارضة المسلحة أملا منها في الضغط على الموقف الأميركي الذي تعتبره "رخوا" و"متراجعا". كما أن النظام السوري سيعتبر أن جنيف – 2 لا يعني قبولا بالمعارضة المسلحة ولا بالصفة التمثيلية لها.فالنظام السوري يستفيد بالطبع من التحوّل في المزاج العام السوري ومن شكوى الناس من ممارسات للمعارضة لم يعتد عليها الجمهور السوري ولا تلقى استجابة لديه. والأرجح أن محاولات توحيد المعارضة في ظل رفض "الحل السياسي" من جانب "جبهة النصرة"و"الدولة الإسلامية في العراق والشام"... هذه المحاولات ستبقى محدودة النتائج.لذا المرتقب في المستقبل القريب والمتوسط أن تسعى كل من تركيا والسعودية إلى"مصالحة" مع الولايات المتحدة الأميركية لتكون جزءا من التفاهمات الأميركية– الروسية للحد من الخسائر وخصوصا أنه لا يمكن وضع كل من تركيا والسعودية في نفس المحور.هناك تلاقٍ بين الدولتين في الموضوع السوري وكل من حسابات مختلفة، وهناك افتراق في الموضوع المصري. تركيا تدعم وصول "الاخوان المسلمين" إلى السلطة والسعودية تعتبر مشروع "الاخوان" تهديدا لها. ومن كل ذلك الإستناج أن الإعتراض التركي– السعودي على التفاهمات الأميركية – الروسية سيسقط بدوره، وأنه لا بديل للدولتين من تفاهم مع اللاعب الاقليمي ايران الذي أعطته واشنطن وموسكو مكانا إقليميا مميزا. فالتفاهمات الأميركية – الروسية تحكمها المصالح لا العواطف. وقد يكون من مصلحة تركيا والسعودية تسريع الإستجابة للتفاهمات قبل وصول كل من واشنطن وطهران إلى "تفاهمات" حول الملف النووي الإيراني.

أخيرا سوريا قوَّتها الحالية تتوفر في عنصرين اثنين:العنصر الأول التفاهمات الأميركية – الروسية، والعنصر الثاني المؤسسة العسكرية. ويُضاف إلى هذين العنصرين التحالفات وإدارتها العقلانية وأيضا التحولات في الموقف المصري التي تقتضي مقاربة واحدة للمتغيرات. وكل ذلك يفترض أن تقرأ المملكة العربية السعودية جيدا المتغيرات وأن تكون جزءا من التفاهمات المصرية – السورية المرتقبة. وذلك حتما في صالحها.

                                                                                                                                                                                                                                                                                        (رئيس ** (رئيس المجلس الوطني للإعلام في لبنان)

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.