كان يوم السبت 6 تشرين الأول عام 1973، وكانت الساعة حوالي الثانية والربع من بعد الظهر عندما بدأت سيارات الشرطة والجيش والاسعاف الاسرائيلية تنتهك حرمة ذلك اليوم، يوم الغفران، لتسير بسرعة جنونية في شوارع مدينة القدس وفي الشطر الغربي منها بالتحديد.. لم تكن وسائل الاعلام على غرار اليوم، فقد كنا نعتمد على وسائل الاعلام المسموعة من مذياع، وخاصة اذاعات دمشق والقاهرة وعمان اضافة إلى صوت اسرائيل.. ورغم ذلك سارعت، كغيري من أبناء القدس لمعرفة السبب وراء مثل هذه الحركة الغريبة لسيارات أجهزة الأمن التي تستخدم ابواقها وبأعلى اصواتها.. وإذا بنا نعرف أن هجوماً عسكرياً مصرياً سورياً تعرضت له اسرائيل على الجبهتين الجنوبية والشمالية. وأن الجيش المصري عبر القناة واحتل الجانب الشرقي منها بعد أن تجاوز خط بارليف الدفاعي الحصين. وبدأت الأخبار تتوالى حول انتصارات الجيشين المصري والسوري، كل منهما على جبهته القتالية.
كم كنا سعيدين لأن ملامح النصر العربي كنا نقرأها من على وجوه الاسرائيليين العابسة اليائسة الذين تلقوا ضربة عسكرية قوية.. وكم كانت فرحتنا كبيرة عندما كنا نتابع الأخبار عن اسقاط عدد كبير من الطائرات الاسرائيلية الحربية فوق دمشق عبر صواريخ سام 6 و7. وشاهدنا وعشنا مرحلة الرعب التي عاشها الاسرائيليون في الأسابيع الأولى من الحرب، إذ كانوا يتخبطون في تصرفاتهم وأقوالهم وادعاءاتهم وتصريحاتهم.. وكانوا خائفين إلى حد كبير..
أذكر أننا أجبرنا على عدم استخدام المركبات الخاصة في ساعات الليل، وكان علينا أن نطلي مصابيح المركبات باللون الأزرق الغامق.. وكانت هناك أوامر عسكرية مشددة جداً، حتى أن الرقابة العسكرية على وسائل الاعلام كانت قاسية جداً جدا.. ونستطيع القول أن اسرائيل عاشت مرحلة "هستيريا" كبيرة استمرت لعدة أسابيع.
كنا نتابع سير المعارك على الجبهتين، وكنا نصفق لأي انتصار عربي في أي معركة كانت تجري على احداهما.. وسررنا أكثر عندما شاركت قوات عراقية واردنية في القتال الى جانب الجيش العربي السوري. وكانت الفرحة أكبر بحالة التضامن العربي التي عشناها عندما قرر العاهل السعودي الملك فيصل باستخدام سلاح النفط في هذه الحرب.
بعد أسابيع بدأت المحادثات العسكرية في "الكيلو 101" على الجبهة المصرية، وتدخل هنري كيسينجر، وزير خارجية اميركا إذ قام بجولاته المكوكية بين تل أبيب والقاهرة للتوصل إلى وقف اطلاق نار.. وكان التدخل العسكري الاميركي قبل تدخل كيسينجر السياسي، إذ أقامت اميركا جسراً جوياً لايصال الاسلحة الى سيناء مباشرة، إذ كانت جميع هذه الأسلحة من آليات ومدافع وعربات ومجنزرات وذخيرة جاهزة للاستعمال الفوري دعماً لاسرائيل التي كانت على وشك الانهيار.
توقف القتال على الجبهة المصرية، لكنه استمر على الجبهة الشمالية، الجبهة السورية إذ أن هذا الاتفاق لوقف اطلاق النار ساعد اسرائيل في تركيز حربها وقتالها على جبهة واحدة، وهي الجبهة السورية.. ولم يتم التوصل الى اتفاق وقف اطلاق النار الا بعد عدة شهور من القتال وبعد جولات مكوكية للوزير الاميركي كيسينجر الذي قال ان الجبهة السورية أرهقته كثيراً حتى تم التوصل الى ذلك الاتفاق.
لقد كانت حرب تشرين/ اكتوبر بداية مرحلة جديدة في منطقة الشرق الأوسط إذ بدأت اسرائيل تفقد هيبتها، وكانت حرب تشرين بداية للعد التنازلي لفقدان الجيش الاسرائيلي هيبته بعد أن كان يوصف بأنه الجيش الذي لا يهزم، ويحقق الانتصارات خلال ساعات.
لقد اعتبر الرئيس حافظ الاسد هذه الحرب تحريرية، لأنه سعى الى تحرير الجولان الذي تم احتلاله في حرب حزيران 1967، في حين أن الرئيس السادات استخدمها كحرب "تحريكية" للجهود الدبلوماسية.
في الواقع فإن سورية حررت عبر هذه المعركة أكثر من ثلث الجولان السوري المحتل، ومصر حررت جزءاً كبيراً من سيناء.. وبالتالي كانت حرب انتصار على اسرائيل.. وهذا واقع تعترف به اسرائيل الآن، وبعد مرور 40 عاماً على تلك الحرب المشروعة والمجيدة لتحرير الأرض وتوجيه صفعة قوية للغرور العسكري الاسرائيلي.
هذه صورة سريعة عن تلك الحرب كما عشناها قبل 40 عاماً.. وبالطبع كانت لها ميّزات وتداعيات ومعانٍ جيدة على عالمنا العربي.. مع كل الأمل في أن تعود الينا تلك الأجواء التضامنية التي سادت وعاشها عالمنا العربي في تلك الأيام والأسابيع الحلوة والجميلة.
جاك يوسف خزمو
رئيس تحرير مجلة البيادر
القدس الشريف
21/10/2013
