تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

من دفتر الوطن - انتقام على الطريقة اليابانية

كل بيت فيه بالوعة، هذا أمر أكيد، وكل شعب فيه أفراد يجسدون الطيبة والكرم، وآخرون يجسدون الخبث والأنانية. لكن بعض الشعوب يتفوق فيها الطيب على الخبيث والكريم على الأناني، ومع أنني من المؤمنين بأن التعميم لغة الحمقى، إلا أنني أود أن أعبر اليوم عن إعجابي باليابانيين وبنظرتهم إلى العالم، وقد سبق لي في هذا الركن بالذات، أن عبرت عن احترامي العميق لسلوك هذا الشعب المتحضر أثناء كارثة التسونامي التي ضربت بلاده قبل نحو عامين. اليوم أود أن أروي لكم حكاية زميل صحفي من اليابان أحسب أنه جسد بسلوكه فرادة الإنسان الياباني، والمفاجئ في الأمر هو ذلك التناغم المدهش بين السلوك الفردي لذلك الصحفي، وسلوك عائلته ودولته. تعلمون أن الصحافة هي «مهنة المتاعب» والصحفي الحقيقي لا يكتفي برصد المتاعب عن بعد، بل غالباً ما يأتي إليها وينخرط فيها، وقد كان الزميل الياباني شنسوكي هاشيدا صحفياً شجاعاً يحترم كلمته، وبصفته مراسلاً دولياً كان من الطبيعي أن يقوده إخلاصه المهني إلى مدينة الفلوجة العراقية التي كانت تشهد معارك ضارية في نيسان 2004. خلال وجود هاشيدا في الفلوجة، راح يرصد انعكاسات الحرب على حياة الناس، وقد استوقفته قصة طفل في التاسعة من عمره يدعى محمد هيثم أصيب بشظية في إحدى عينيه الأمر الذي كان يهدده بالعمى الكامل إذا لم تتم معالجته خلال أشهر. ونظراً لتفاقم ظاهرة اغتيال الكفاءات وجرائم الخطف بغرض الابتزاز التي تفشت في العراق بعد الاحتلال الأميركي له، لم يكن قد تبقى في بغداد أي من جراحي العيون الكبار القادرين على إجراء هذه العملية الدقيقة التي من شأنها أن تنقذ عيني الفتى محمد من العمى. تأثر الزميل الياباني شنسوكي هاشيدا بقصة الفتى العراقي، فأبلغه بأنه سوف يسافر للحصول على موافقة حكومة بلاده، وسيعود قريباً لأخذه معه إلى طوكيو كي يعالجه هناك على حساب الشعب الياباني. في الشهر التالي عاد هاشيدا إلى العراق، ومعه خاله وهو صحفي قديم يبلغ من العمر 65 عاماً، وعقب وصولهما إلى الفلوجة لاصطحاب محمد إلى اليابان بعد أن تم ترتيب إجراءات علاجه، وقعوا، ومعهم مترجمهم العراقي، في قبضة مجموعة مسلحة لا تميز بين عسكري أميركي وصحفي ياباني، فقتلوا جميعاً. فماذا كان رد فعل أسرة هاشيدا ودولته على مقتله؟ عائلة هاشيدا رأت أن أفضل انتقام له هو تحقيق الهدف الذي مات من أجله. فقاموا بعد شهر واحد من مقتل ابنهم، بإحضار الفتى محمد هيثم إلى اليابان حيث عالجوه وأنقذوا بصره وهو الآن شاب وسيم يبعث مرآه على التفاؤل والثقة بالمستقبل. أرملة الزميل الياباني الشهيد فكرت بأفضل طريقة للانتقام من قاتلي زوجها فأنشأت جمعية خيرية باسمه لمصلحة أطفال العراق، وقد حفزت هذه الجمعية الحكومة اليابانية على التبرع بملايين الدولارات لتمكين الأمم المتحدة من إنشاء مستشفى في الفلوجة، مدينة الفتى محمد، مزود بأرقى الإمكانات لعلاج الأطفال المصابين بالسرطان. وقد افتتح المستشفى خلال شهر آذار الماضي ويعمل فيه الآن ثلاثون طبيباً وطبيبة. أعترف أن طريقة هؤلاء اليابانيين في «الانتقام» لمقتل ابنهم ومواطنهم قد عززت احترامهم في نفسي، فأسلوب الانتقام هو المقياس الأكثر دقة لتحديد هوية الأفراد والأسر والمجتمعات، فالانتقام، على حد قول الفيلسوف والسياسي الإنكليزي فرانسيسبيكون «...هو نوع من العدالة المتوحشة؛ كلما ازداد ميل طبع الإنسان إليها أكثر، كان من واجب القانون أن يجتثها من جذورها». والانتقام لا يؤذي باتجاه واحد، إذ غالباً ما يرتد على القائم به، ويبقى وصف الكاتبة الإنكليزية شارلوت برونتي لتأثير الانتقام على المنتقم، هو الأعمق برأيي، إذ تقول على لسان بطلة روايتها «جون إير»: «عندما تذوقت شيئاً من الانتقام لأول مرة، بدا لي وأنا ابتلعه كنبيذ دافئ طيب الطعم، لكن نكهته سرعان ما تحولت إلى صدأ معدني جعلني أشعر كما لو أنني قد تسممت». نعم «قل لي كيف تنتقم أقول لك من أنت»! وقد انتقم اليابانيون لمقتل ابنهم ومواطنهم هاشيدا بطريقة تستحق التحية والتقدير حسن م. يوسف

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.