تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

غرفة من صفيح في داريا ..يقتلك السقف أو "النصرة" !!!!

مصدر الصورة
بلدنا السورية

 

آخر الليل في داريا، ونحن على خط النار، هذه حدود دمشق الجديدة، لم أكن يوما أكثر قرباً من مكان سقوط القذيفة، صوتها يُحرك اللاوعي فيك، تتصرف كخلد يحاول الحفر في أي شيء كي تختبئ، درايا لم تعد موجودة، ليست التي أعرفها أبداً، الأرض تتلوى والأبنية تستند على بعضها، ولم تعد قادرة على الوقوف، حتى الأشجار فارقت الحياة، نيزك ضرب المدينة، وهذه هي بقية الحكاية، حكاية ليالي دمشق التي دوّت فيها أصوات مرعبة، ما أسخف خوفنا منها آن ذاك، جنود الجيش متعبون وأحدهم بالقرب مني، "إبراهيم" يسرد لي بلا توقف كيف أن المعارك لا تتوقف هنا، لكنه لم يعد يملُها ولم يعد يفكر في الحياة "المدنيّة" لقد تعود الحرب وربما بات يحبها، ولا يملك اليوم أي مخططات لما بعد المعارك إذا حل السلام، ألحُّ عليه أن يتخيل يوم "التسريح" يبتسم ويقول إنه عاجز عن التخيل.

 

ننتظر العشاء قبل أن تستأنف المعركة التي توقفت منذ قليل، لن تطلق النيران في وقت العشاء، يبدو إبراهيم متأكداً، لم يتجاوز الثانية والعشرين من العمر، ويتم الآن العام الثالث في الجيش، عام ونصف العام من تاريخ تسريحه المفترض تمت اليوم ومازال يحارب، لم يكن يعملُ شيئاً ذا قيمة قبل الحرب ولم يزر دمشق إلا مقاتلاً، مع أنه تمنى ذلك حين كان مدنياً.

 يصل العشاء، يأكل الجنود بنهم ويتبادلون الأحاديث عن النساء وأنواع أجهزة الهواتف النقالة، ويُحدثنا واحد منهم عن المقاتل الآخر، وكيف كانا يتبادلان الطلقات من دون أي قدرة على الإصابة، كنا ننتظر الشاي بعد العشاء، حين دخلت الرصاصة الأولى غرفة الصفيح التي يستريح فيها الجنود، انهمر الرصاص كالمطر وبدأ يمزق الألواح الحديدية، انبطح الجميع على الأرض، إبراهيم يحاول الوصول إلى سلاحه زحفاً لكن هذا مستحيل، غزارة الرصاص تدل على أن جبهة النصرة هي التي تهاجم، فالمعارك علمته أن "الجيش الحر" يهاجم من بعيد ومن دون تركيز، لكن هذا رصاص يعلم إلى أين يذهب، النصرة تتوغل في الأراضي التي لا يسيطر عليها أحد، الخوف يملأ المكان الآن، فلا بد أن أحداً ما سيقتل الليلة إن لم نكن جميعاً، إذا لم يتدخل الطيران، فيما تسقط أول قذيفة آر بي جي على مقربة منا، ولا يزال خط الرصاص على حاله في هواء الغرفة، إذا ما استمر الرصاص على هذا النحو لوقت أطول، فلن ننجو، يصرخ الملازم عبر اللاسكلي طالباً دعماً فورياً:

 

- نحن هنا خمسة وعشرون عسكرياً...

 يرد المجند على الطرف الآخر من اللاسلكي أن انتظروا.. أضخم الجنود جثة وأصغرهم عمراً يطلق الشتائم بعد كل رصاصة، وفيما يصمت الآخرون تسقط الآر بي جي الثانية، هذه أقرب إلى أرواحنا من الأولى، كل الغرفة ترقص الآن والغبار يملأ المكان، السقف يرتج ويترك كل ما عليه من أتربة حرة على رؤوسنا، قد يقتلنا سقوطه فقط، يعود صوت المجند على اللاسلكي:

 

- قاوم الهجوم استخدم كل الذخيرة لديك.

 في الخارج كان جنديان يتوليان الحراسة أثناء العشاء، ومنذ القذيفة الثانية علينا، لم نعد نسمع صوت رصاصهما، حياتنا الآن معلقة فقط بتركيز مقاتل النصرة الذي يطلق الآر بي جي، إذا ركز أكثر، سندفن هنا، وإذا اقتربت النصرة أكثر وتأخرت الطائرة سنموت هنا، وإذا ضربت الطائرة النصرة بالقرب منا ستقتلنا نيران صديقة.

 يعلو الصراخ في الغرفة باقتراحات باستخدام المدفعية، أو الراجمة.. يهبطُ مهوى الرصاص فتخترق رصاصة فخذ فارس، فيطلق صرخة سببها الخوف أكثر من الجرح، وينقل لنا جميعاً عدوى الخوف، ربما يموت أولاً وربما نموت معاً وربما ينجو هو ونموت جميعاً، يناشد المصاب جميع من حوله، أن لا يتركوه إذا أخلوا المكان، كل هذا مع صوت الرصاص الذي بدا أن مطلقيه قد بدأوا بتوفيره، فالزمن الواصل بين الطلقة والطلقة بدأ يتسع، ستلاحظ جيداً أهمية هذا الزمن حين يرقص الرصاص من حولك، لكنك لن تعي دلالته، فإما أن يكون الهجوم المباشر قد بدأ وما هي إلا دقائق حتى يفتح باب الغرفة ويدخل عناصر النصرة، أو تأتيك قذيفة مباشرة تنهي الليلة، أو ربما هو انتهاء الهجوم، وجوهنا على الأرض وعلينا أن نحلل جيداً ما الذي يجري، يعود الجندي الضخم من جديد، فمه رشاش شتائم متنوعة ومبتكرة.

 

 ظننتها معجزة... واكتشفت لاحقاً أنها ليست كذلك، حين فتح الباب بعد أكثر من ساعة ودخل مساعد في الجيش يتجاوز طوله المترين، مبتسماً وكأن شيئاً لم يكن، همّ الجميع الى ما كانوا يفعلون قبل الهجوم، الذي عرفت أنه لا يستحق الكلمة فهو أقرب إلى الاشتباك، وضع أبريق الشاي على النار من جديد، وأسعف فارس الذي بدا لا يشعر بأي ألم، كنت أنا من يتألم من رصاصة لم تصبني!! تغيرت الوجوه بالنسبة لي، المساعد الذي اعتبرته منقذاً كان صديقاً للجميع وقادراً لا على زرع الابتسام فقط، بل وبث الثقة أيضاً، شاب لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، يقدرُ على عصر حجرٍ بيديه، يقول لي ويطمئنني بأن لا داعي للخوف، كان خوفي رطباً، بعكس الجميع؛ فما بدا خوفاً بالنسبة إلي، كان غضباً بالنسبة إلى الجميع، المنقذ، أصيب أربع مرات حتى الآن في معارك خاضها في كل الريف، واختبر قذيفتين، وعاش انفجارات عدة وحوصر ثلاث مرات، وله ولدٌ لم يره منذ عام.

 

                                                                                                                                   قصي عمامة

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.