تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

د. نضال الصالح :العشاء الأخير

      أطوّقُ خصْرَ «إيفا»، فتلتصقُ بي، حتى نكاد نصيرُ واحداً، ثمّ تمضي بي من حارة إلى أخرى من حارات دمشقَ القديمةِ، من القيمرية، إلى باب توما، فالقصّاع، وما إنْ نبلغ كنيسةَ         الصليب،حتى تنهمرَ «إيفا» في الكلام، شأنَها كلّما وقفنا أمام روحٍ، قدْ لا تكونُ، بالنسبة إلى سواها، غيرَ حجارةٍ من ماض قريب أو بعيد:     

     «ومن حيثُ المساحةُ، هذه الكنيسةُ هي الثانيةُ في دمشق بعد الكاتدرائية المريمية. أقيمتْ في موقع دير الصليب المقدس الذي يعود إلى القرون المسيحية الأولى. انتهى بناؤها قبل نحو ثمانين سنة»، ثمّ أشارت إلى نقشٍ على حجرِ رخامٍ يعلو بابَها، وما إنْ بلغنا باحةَ الكنيسة، حتى قالتْ: «كما ترى، بُنيت الكنيسة على شكل الصليب. لها بابٌ رئيس من جهة الغرب، وآخران من اليمين واليسار. فيها الكثيرُ من الأيقونات، إضافة إلى أعمدتها وأثاثها الخشبي المحفور بزخرفات فاتنة وإتقانٍ ساحر».
إيفا مهندسةُ عمارةٍ بارعةٌ، وخبيرةٌ بالآثار. وقبلَ ذلك وبعده عاشقةٌ للأدب، وتكتبُ الشعر. كانت، كلّما زارتْ حلبَ، وقبلَ أن تستريحَ راحتُها في راحتي، تقولُ: «أعدِ الحكايةَ، أنساها قاصدةً عندما أراك»، ثمّ: «كأنّكَ أنا»، فأردّ: «كأنّكِ أنا»، فتومضُ عيناها ببريقٍ لا ينفد، فأتابعُ: «مريمُ هي أمّي أيضاً، شأنُ أمّي الأولى حوّاء وأمّي الثالثةُ التي حملتني وهْناً على وهْن»، وأتابع: «ولي أمّ رابعةٌ، أنتِ»، فيورقُ المكانُ بضحكتها الفادية وهي تقول: «فاسمعْ كلمةَ أمّكَ إذنْ يا صغيري»، ثمّ تقبضُ على أصابع يمناي بأصابع يسراها، وتقودني بين تلافيف الحارات القديمة كطفل، وتتدفّقُ بالحكي والضحكات، حتى تشيرَ إلى ما يعلو موضعَ السُرّةِ منها، فنأوي إلى مكان نلوذُ به من رهَق الساعات الطويلة التي نُمضيها من مكان إلى آخر، وكانت لازمةُ إيفا: «ثلاثةُ عصافير بوردة واحدة، أنتَ، وأنا، وما يكبحُ طيشَ الجوع والتعب»، وكانت لازمتي: «بل ثلاثةُ عصافيرُ بوردةٍ واحدة، أنتِ، وأنتِ، وأنتِ»، ثمّ أرتّلُ: «وهزّي إليكِ بجذعِ النخلةِ تُساقطْ عليكِ رُطباً جَنياً»، وكانت ترتّلُ: «ليسَ بالخبز وحدَه يحيا الإنسان»، ثمّ ترسمُ إشارةَ الصليب، ممجدةً الروحَ.. الحياة.
وكانت إيفا، أيّاً كانت، وليلةَ الميلاد كلّ سنة، تغنّي لي: «ليلة عيد، ليلة عيد، الليلة ليلة عيد، زينة وناس، وصوت جراس عم بترنّ بعيد... صوت ولاد، تياب جداد، وبكرا الحبّ جديد»، وكنتُ أردّدُ: «يا مغارة كلّا بيوت، تلمع متل الياقوت، كيف جبتي عالدار، تلج شرايط وقمار».
في حلب، وفي واحدة من زيارات إيفا، ومن بوّابة القصب كنّا مضينا مرّةً إلى كنيسة مار آسيا الحكيم في الجدَيْدَة، حكتْ إيفا لي بما يشبهُ الهمْسَ كأنّما ترنّمُ من كتاب بين يديها، شأنها دائماً: «يعودُ تاريخُ هذه الكنيسة إلى ما قبل خمسمئة عام، تاريخ عودةِ مسيحيي حلب إلى حلب بعد أن هجّرهم هولاكو منها، وقتلَ الكثيرَ منهم».
وفي دمشق، وفي كنيسة الصليب، سمعتُ إيفا ترنّمُ مرّةً: «أبانا الذي في السموات. ليتقدّسِ اسمُك، ليأتِ ملكوتُك.. ولا تُدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشرير». وفي دمشق، وبعدَ نحو ثلاث سنوات، مضيتُ إلى كنيسة الصليب، ولم تكن إيفا معي. كانتْ، بعد يومين من عشائنا الأخير، غادرتْ إلى بلاد بعيدة للاستشفاء من أثر الشظية التي اخترقتْ صدرها بفعل قذائف عمياء، وكانت روح إيفا ترفرفُ في المكان، فتلوتُ ما تيسّرَ من آي الذكر الحكيم، ثمّ سمعتُني أرنّمُ: «أبانا الذي في السموات، وجاء زمانٌ تعدّدَ هيرودس فيه، فصارَ مهالكَ لا مهلكة، وتناسلَ يهوذا فيه، فصارَ عرباً، وأعراباً، ومنّا. أبانا الذي في السموات، أيّانَ القيامة، فتكون العدالة قبلها، فينهزم هذا الظلام الزؤام؟».
وفي دمشق، وليلةَ الميلاد، سأمضي إلى كنيسة الصليب، وسأرى إيفا.. لا بدّ سأراها، وسأخاصرها في حارات دمشق القديمة، وسنغنّي معاً.. سنغنّي: «ومغارة سهرانة فيها طفل صغير،

بعيونو الحلياني حبّ كتير كتير».

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.