تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

عادل محمود: الكاتب الصامد على جبهة البرد والندم

مصدر الصورة
صحيفة الاخبار اللبنانية - sns

بعيداً عن دمشق، في قريته النائية، يقلّب يومياته متماهياً مع الطبيعة الأم. صاحب «قمصان زرقاء للجثث الفاخرة» أمضى حياته منذوراً للحروب والمنافي. دخل الصحافة شاباً بالمصادفة، واهتدى إلى الرواية في الستين وسيلة لتفريغ مخزونه من مفردات الألم

بالنسبة إلى عادل محمود، لم تمر هزيمة حزيران 67 بالمرارة ذاتها التي تجرّعها الآخرون. كان منظر شقيقه العائد من الهزيمة «كأنّه خارج من القبر» مشهداً يختزل كلَّ ما تلاه من هزائم ونكبات. ستبقى حربة البندقية الروسية التي غنمها الشقيق من ذخيرة المهزومين، ذكرى غير قابلة للنسيان. الشاعر السوري الذي تحوّل أخيراً إلى كتابة الرواية، «لتفريغ مخزوني كاملاً من مفردات الألم»... قدره أن يكون منذوراً للحروب. في «حرب تشرين» (1973)، وجد نفسه مراسلاً حربياً في القطاع الشمالي من الجبهة، بالقرب من مدينة القنيطرة. هناك خبر معنى أن يموت جندي بقذيفة مباغتة أمام عينيه، أو أن يهرول بنفسه للقبض على طيار إسرائيلي سقطت طائرته، ويجري معه مقابلة تلفزيونية.
أتى صاحب «قمصان زرقاء للجثث الفاخرة» إلى الصحافة بالمصادفة. يقول «تعرّفت إلى واحد من ضحايا سارتر والوجود والعدم، كان يعمل رئيساً لتحرير مجلة «الطليعة»، وكان قد قرأ لي نصاً في صحيفة الجامعة. دعاني للانضمام إلى أسرة تحرير المجلة. هناك، وجدت خلدون الشمعة، وزكريا تامر، ونذير نبعة، وبدر الدين عرودكي، وطيب تيزيني. شعرت برهبة، لكنهم احتضنوني وكُلّفت بكتابة ريبورتاج عن قصف مدرسة «بحر البقر» في بور سعيد. بعدها صرت صحافياً ميدانياً».
يدين عادل محمود بالكثير لهذه الفترة من حياته، إذ أتاح العمل الميداني له أن يتعرّف إلى أنماط الحياة السورية بأطيافها كلها. في مجلة «جيش الشعب»، وجد الملازم المجنّد فرصة أخرى لاختبار تضاريس الجبهة، بصحبة ممدوح عدوان، ورياض عصمت وآخرين. وسجّل من مرصد جبل الشيخ وقائع أبطال محاصرين، «تحولوا لاحقاً في لبنان إلى قطّاع طرق».

سيتكرر حزيران كثيراً في مفكرة صاحب «حزن معصوم عن الخطأ». في هذا الشهر من عام 1946، ولد في قرية معزولة عن العالم تدعى عين البوم في صلنفة، أعلى نقطة فوق مستوى سطح البحر في سوريا. كان عليه أن يقطع نهرين كي يصل إلى المدرسة، في رحلة عجائبية تحتاج إلى ساعتين كل يوم، في شتاء جهنّمي. لم يكن مستغرباً أن يستمر المطر عشرين يوماً متواصلاً، أو أن تضرب عاصفة شجرة فتشطرها نصفين. «نشأت في البرد، ولم أشعر بالدفء طوال حياتي»، يقول. هذا المخزون البصري لطبيعة عذراء، أسهم لاحقاً في تكوينه الشخصي. يؤمن بأنّ قيم الطبيعة وحدها هي ما يستحق الانتباه، «ليس من وجهة نظر رومانسية، بل لثقل الأحمال البشرية في التعجيل بالكارثة».
مطلع الثمانينيات، وجد عادل محمود نفسه ممنوعاً من الكتابة، وعوقب بنقله إلى قسم الأرشيف، في صحيفة «البعث». صودرت مجموعته القصصية الأولى والوحيدة «القبائل»، ومُنعت من التداول... لكنّها طبعت في دار نشر فلسطينية في الداخل على أنها لكاتب فلسطيني يحمل اسم عادل محمود. لم يُصحّح هذا الخطأ إلى اليوم. بدا أن البلاد في تلك المرحلة كانت مقبلة على كارثة. التقى صحافياً مشاغباً هو ميشيل النمري، طرح عليه العمل معه في مجلة «النشرة» في نيقوسيا. وحين سأله عن طبيعة هذه المجلة، أجابه النمري بأن المجلة ستقوم بأرشفة حركات المعارضة في العواصم العربية. «كان عرضاً مثالياً لصحافي عاطل من العمل»، كما يقول.
لكنه اكتشف أن المشروع صفقة معروضة للبيع لهذا النظام أو ذاك، انتهت باغتيال النمري في أثينا. ترك المجلة ليعمل في منبر فلسطيني هو مجلة «البلاد»: «كانت المجلة تُحرر في الأرض المحتلة، وهو ما ساعدني على التعرّف عن كثب إلى حياة الفلسطينيين في الداخل، وإلى عمق التفكير الإسرائيلي، من دون أن أسلم من أوجاع رأس». هكذا بات عادل محمود لاجئاً فلسطينياً، قادته الدروب مع فلسطينيين آخرين إلى تونس، ليعمل سكرتيراً لتحرير مجلة «اللوتس». وبحكم عمله في مطبخ الإعلام الفلسطيني، تعرّف إلى ياسر عرفات، وأبو جهاد، وأبو إياد، وشفيق الحوت، ورموز فلسطينية أخرى... «تعرفت أكثر إلى محمود درويش، ونشأت بيننا صداقة حميمة».
بعد أوسلو، تبخّرت أحلام الفلسطينيين في الخارج، فعاد إلى سوريا (1994)، وأصدر ديوانه «استعارة مكان». قبل ثلاثة أعوام، اختفى عادل محمود شهراً كاملاً، لينكبّ على كتابة روايته «إلى الأبد... ويوم». لم تكن رواية بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما هي جردة حساب لماض مثقل بالذكريات. «مهما تظاهرنا بالنسيان وانعدام الوزن، سيبقى لدينا ما يكفي لإشعال النار حين تهب رياح الذاكرة»، جملة ترد في متن الرواية، ستقود الراوي إلى نبش وقائع سيرة شخص محكوم بالأسى في بلاد «لم يبق فيها شيء سوى القبور والسجون والخيبات». المفاجأة أن الرواية التي كتبها عادل محمود بنوع من الحمّى السردية، حصدت «جائزة دبي الثقافية للإبداع» (2007)، وهناك مشروع لنقلها إلى الشاشة. هذا الاستقبال فتح شهية صاحبها على اقتحام السرد مرة أخرى برواية حملت عنوان «شكر للندم»، في استعادة لبهاء الطبيعة وغبطة الكائنات البريّة، بعيداً عن الوحش البشري الذي اخترع مفهوم الاغتصاب.
يعترف صاحب «مسودات عن العالم» أن الشغف الروائي قد أصاب منه مقتلاً، وبات يحتل لديه مكانة أكبر بكثير من تلك التي للشعر. يرى اليوم أن الإبداع الخلّاق تتيحه كتابة الرواية، لا الشعر، بوصفها «حياكة مخبولة وعبثية... للهاوية، وكميناً لاصطياد الذكريات وترويض الوحش في داخلنا». ثم ضجر عادل محمود من دمشق. صار يصرف وقته في بيت ريفي صغير في قريته «عين البوم»، متماهياً مع بالطبيعة الأم «قبل دمارها البيئي بقليل». يبرر خياره هذا بقوله: «علاقتي بالمدينة تقلّصت بسبب انحسار المثقف وتهميشه، وإجباره على الذهاب إلى زوايا لم تكن جزءاً من رغباته». لكنه يعوّض غيابه الشخصي بإطلالة أسبوعية عبر صحيفة «الوطن»، من دون أن يتخلّى عن نبرته الشعرية، متكئاً على حكمة تتسلل في شذرات ومقتبسات: «لا تستخف بتجارب الحكماء، هناك ما هو مفكّر به، فالرؤية البعيدة تحتاج إلى أكتاف الآخرين».

                                                                                                                            خليل صويلح



5 تواريخ

1946
الولادة في عين البوم، اللاذقية (سوريا)

1973
عمل مراسلاً حربياً على الجبهة السورية في «حرب تشرين»

1979
صدر ديوانه الأول «قمصان زرقاء للجثث الفاخرة». وبعدها بأربع سنوات بدأت رحلة المنفى التي استمرّت عقداً كاملاً بين قبرص ويوغوسلافيا وتونس

2007
«جائزة دبي الثقافية للإبداع» عن روايته «إلى الأبد... ويوم»

2010
روايته الثانية «شكر للندم» (أرابيسك)

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.