تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

بولص سركو.. ابن الحياة والمجتمع

مصدر الصورة
SNS - بلدنا

محطة أخبار سورية

كانت البداية من خاله الرسام المبدع -على حدِّ توصيفه- الذي يرسم أمامه، وبولص الذي يراقبه بغرابة شديدة، حتى وصل به الحال ليتلمّس أصابعه على الأوراق المرمية في أيّ مكان، ليرسم عليها “بدلاً من ألعاب الأطفال المفقودة في حينه”. وكان لانفجار الانتفاضة الفلسطينية أثرٌ أكبر على حياته الفنية؛ فالمشاهد والبطولات اليومية لأبناء الانتفاضة، حفّزت مخيّلته ليلتقط المشاهد ويجسّدها بالورق المقوى. وطوّرت التجربة الطفولية، من خلال قريبه وألعابه الورقية، موهبته في الرسم، وذلك في أول معرض شارك فيه داخل مدرسة جول جمال، بمناسبة اليوبيل الذهبي في العام 1974.

ومن خلال المعرض أجرت معه الإذاعة الرسمية أول لقاء. وكان دخول بولص مركز الفنون التشكيلية في مدينة اللاذقية فارقاً حيوياً أيضاً؛ فامتلك القواعد البدئية في الفنّ، وتطوَّرت لوحاته بشكل جيد، وحاز الجائزة الأولى على مستوى المراكز الفنية في سورية لأكثر من مرة. يقول بولص إنَّ السعادة الشخصية التي التمسها في بداية حياته الفنية اصطدمت بالثقافة الفنية التي تعرّف إليها خارج المركز، وخاصة مشاهدتهِ المعارض الفنية لفنانين تشكيليين محترفين، وعرفَ أنَّ عليه أن يعكس تخيّلاته ومعالم معرفتهِ في خلق اللوحات، والخروج من القواعد التطابقية في الرسم والفن. ودخل بولص، قبل سفره إلى بلجيكا للدراسة، عالم الثقافة الفنية والفلسفية، واهتمَّ بشكل واسع بالشعر، وبدأت لوحاته الزيتية تتمثّل مخيّلة الشعراء، مع اهتمام جدي بالقضايا الوطنية آنذاك.

وكان سفره إلى بلجيكا فارقاً آخر، وخاصة من خلال دراسته واطلاعهِ الواسع على الثقافة الفنية والفلسفية، وتبنّيه قضايا مركزية استمرَّت معه في مرحلة النضج؛ كميله المنهجي إلى الماركسية، ومحاولة تجذير أفكارها على سطح اللوحات. في بلجيكا، توسَّعت التجربة والمخيّلة، ولا ينسى بولص أستاذه “يوبي”، الذي انتدبه ليكون زميلاً له في مرسمه الخاص. ولتوسيع التجربة الحياتية، وَطنَ بولص لفترة في الدانمارك في قرية “لهيبين”، كأول عربي تقريباً يطأ تجربة كهذه ويعتاشها.

العودة إلى سورية كانت أيضاً مفصلية؛ عاد بولص إلى قريته بخلفية احترافية وتخيلية عالية، وقرَّر بنفسه الاستقرار واحتراف الكتابة والفن دون أيّ شيء آخر. يعشق بولص هذه المرحلة؛ كونها مرحلة مفاهيمية وذاكرتية، ارتأى فيها الموهبة، وأيقن تمرده على مجتمعه بكلِّ نواحيه، وخاصة من خلال الاطلاع الواسع على الأدب الحديث والفلسفية السياسية الحديثة. وساعده عشقه للريف أن يكون صافي الذهن شديد التبصر. وبدأت أعماله التجريدية تمثّل جزيئات المجتمع السوري، وظهرت انعكاسات تفاصيله في لوحاته، مستقاة من تجارب أدبية وحياتية مباشرة. وتطوَّرت التجربة بدفء قروي وكمون شخصي واضح، وصولاً إلى معرضه الأول في كلية العمارة في اللاذقية، حيث كان معرضاً ناجحاً ولافتاً. وانتسب إلى نقابة الفنون التشكيلية عام 1995، وأقام معرضاً في ذات العام بعنوان “رفرفة بجوار النافذة”، ومعرضاً آخر مع خمسة فنانين في المركز الثقافي الروسي.

ومن حينها ترسَّخت أفكار بولص، وبدأت تأخذ منحاها، وخاصة في عكس الفكر الإنساني والتنويري، على حد قوله الدائم، من خلال فلسفة نظرية تقول: “إنَّ الفن ينبع من صميم الحياة نفسها”، وإنَّ الجمال ما هو إلا شعور خصب بالحياة.عكف بولص، أثناء مرحلته التجريدية، على عدم الولوج في التجريد على حساب الواقع، بل استطاع إنشاء لوحات تجريدية، مع مدلولات رمزية ثابتة وواقعية، كالأشكال الرمزية التعبيرية، مُدخلاً ميفيزيقا الرؤيا الجمالية مع وقائع استنادية تاريخية من ثقافة سورية، بمواربة فنية خالصة الجمال، تهدف إلى إبراز ثقافة سورية والملمح الساحلي برؤيا تعبيرية تُصيب في صميمها الواقع الاجتماعي ومآلاته. فلا ينسى أحد معارضه التي قدّم فيها المرأة (الحورية) بصورة مشهدية شديدة الاختلاف عن الاستهداف التقليدي للحورية، مُدخلاً الرموز التاريخية للمنطقة، مع إيحاء لوني وضّاء، يبتكر فيه بولص المشهد برؤيا سينمائية مباشرة، مع هوامش تجريدية تُعيد تشكيل اللوحة بمنحى الرؤيا العميقة، مع تلوين عالي المستوى والمواءمة. يبقى أثر اللون، الذي يفرزه بولص على اللوحة، مجال إبداع منقطع النظير، في ظلِّ ثقافة لونية منحدرة؛ لطغيان التجريد اللامتناهي على الفنّ الحديث حالياً. وقد لا نكتفي بالحديث عن بولص الفنان، الذي يُعنى بالجمال وحده والتشكيل اللوني، بل لا بدَّ لنا من أن نذكر تركيز بولص الدائم على الإنسان، ومواكبته الدائمة للأحداث العالمية، وموقفه الأيدلوجي العنيد في الكثير من القضايا، حيث لا ينكفئ بولص عن متابعة القضية الفلسطينية، وتصوير أحداثها برؤيا إنسانية. ويعكس انفعاله الجمالي، المرافق للحسّ الإنساني، بلوحات تسعى إلى تكريس اللحظة الاجتماعية المناضلة للشعب الفلسطيني، ضمن لوحات شديدة القيمة فنياً وذاكرتياً. وبهذا يكون بولص مخالفاً الكثير من علماء الجمال، الذين يخلطون بين الفن والمتعة، مُخرجين القضايا الكُبرى من الفن؛ أي إخراج الفن من النافع. وقد لا تشاهد في مدينة اللاذقية فناناً واحداً كبولس سركو شديد الحديث عن القيمة الجمالية، التي يراها في صميم الوجود الاجتماعي خاصةً.

استمرَّت معارض بولص خلال السنوات الأخيرة، في بلادٍ يقوم فيها الفنّ التشكيلي بوصفه نرفانا لنخبة منتقاة، وما ترى بولص إلا يحتج على الضعف التعليمي داخل المدارس بالنسبة إلى الفن التشكيلي. ويحاول دوماً محاربة التخلف الاجتماعي، بتكريس المرأة برؤاها كافة، محاولاً تكريس جسدها بوصفه فناً وخلقاً.

بولص صديق المدينة وابنها.. البحر المقتول من حجر المرفأ، مازال بولص ينعشه بلوحات كثيرة في كل عام. معهده يستقبل الأطفال، كيلا تنساه المدينة.. بساطته، وعشقه للناس يجعلانه ابناً صالحاً لمدينة اللاذقية. الكثيرون من أصدقائه ينتظرون ديوانه الشعري أيضاً، ومذكراته الغريبة.

المدينة تشبهه لأنه فيها...

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.