تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

أبو علي في سوق الأسهم المتعة في التفاصيل

 

تكمن خصوصية الكاتب والروائي السعودي عبد الكريم المهنا في روايته (أبو علي في سوق الأسهم) في تلك القدرة الفائقة على جمع أدق التفاصيل للحياة اليومية لشرائح واسعة من أفراد المجتمع السعودي.
قد تعد بالعشرات، وإدخالها إلى مختبره الإبداعي ليخرجها بعد ذلك نصا ً روائيا ً مختلفا ً بامتياز بقدرةٍ لافتة على رصد فيض التحولات التي طرأت على بعض المجتمعات العربية وخاصة الخليجية والناجمة عن تأثيرات تسونامي العولمة بما فيه من هزات قد خلخلت فيما يبدو بعض الأنساق الفكرية والأخلاقية والاجتماعية لتلك المجتمعات، من دون أن يغفل ذلك الجانب الإنساني الشفاف وذلك الضعف الأصيل في الشخصية العربية عموماًً تجاه المهزوم والمنكسر الذي يوظفه ببراعة من أجل الحفر في تربة الاجتماعي والنفسي، فإذا كانت المقولة أن النص لا يستمد مشروعيته من تقنيات السرد وحدها ولكن من خلال كونه – وهو الأهم – شهادة وغوص أركيولوجي في عمق السياسي والتاريخي ناهيك عن دواخل النفس البشرية وتعلقاتها الاجتماعية فإن الكاتب قد نهج من خلال نصه السردي على نسج كتابة إبداعية قد تتأبى على التأطير النقدي المعياري المغلق لتقترح على المتلقي استقبالها التلقائي العفوي، بخاصة أن الموضوع المتناول بما فيه من حساسية مفرطة نابعة من راهنيته ورأي الفقهاء فيه وانقسامهم حوله قد نسج حوله شبكة من خطوط حمراء متدرجة، لا سيما أن الراصد إنما يتناول بيئة سعودية مغرقة في الخصوصية والانغلاق، وإذا كان النص هو من يبتدع لغته ويفرض إيقاعها ومستوى انزياحاتها وكيفية توظيف ألفاظها وأهميتها البيانية فإن الراوي نحا في كتابته إلى إستخدام لغة رشيقة سهلة بعيدة عن التقعير البياني واللفظي دون أن يهمل استخدام بعض المفردات والعبارات العامية والتي وظفها هي الأخرى توظيفا ً مبرراً من دون أن يغفل شرحها للقارئ من بيئة مختلفة بلباقة ومن دون تكلف. ‏
 
قد يكون عنوان الرواية في حد ذاته بما هو جزء من (الطليعة الدالة) مفتتحاً مناسباً لمقصد الراوي الذي كوّن مع الفصل الأول من الرواية جملة واحدة متماسكة ساهمت في شد القارئ للمقروء بجرعة مناسبة من التشويق المشروع (التشويق هو الذي أنقذ شهرزاد من القتل وليس الحكي في حد ذاته). ‏
 
«الدوادمي» هو اسم القرية اللغز وهي المكان الذي ترعرع فيه الراوي وهي المكان الملتبس بين الحقيقة والوهم، بين الواقعي والمتخيل بين عالم الأنس وعالم الجن، طفولة أمضاها هذا البطل الصغير الهش مترنحا ً بين سطوة أب مهووس بجني المال، يعمل بفلاحة الأرض والإتجار بمحصولها ولا هم له إلا تكديس المال حتى وإن جاءه عن طريق النصب والاحتيال والمماطلة واستغلال جهد الآخرين بمن فيهم أبناؤه. في هذه القرية التي درس الراوي في مدرستها حيث كان طموحه كبيراً جدا ً «لدرجة أن بعض زملائي كانوا يطمحون بأن يصبحوا أطباء ومدرسين، أما أنا فقد كنت أطمح بأن أتخرج من المعهد الملكي لكي أصبح ملكاً». بهذا الأسلوب يكاد الراوي يسخر من كل شيء من والده ومن أقرانه بل ومن نفسه أيضا ً وبشكل خاص، حتى أن الرواية تصبح في بعض فصولها أشبه بساحة لتصفية الحسابات لكل ما كان يعتمل في نفس الكاتب من احتجاجات وتساؤلات مع الذات بشكل خاص ولكن بطريقة لا تخلو من تهكم مشوب بالمرارة في بعض الأحيان. يقول «يقول والدي أنني ولدت يوم غرس نخلة (المقفزية ) بجوار جابية الماء ولكنه للأسف يضيف أن تلك النخلة لم تنمُ بل ضمرت حتى ماتت ويقول إن يوم فطامي بعد ميلاد سالم ابن عمي بيوم واحد والذي يوافق مع الأسف يوم وفاة جدي إبراهيم». جملة من تفاصيل حياة الريف المغرق في بدائيته وتخلفه تجعل القارئ يعيش في ترقب عن الكيفية الذي سيتحول بها هذا القروي البائس إلى تاجر في سوق الأسهم بكل تعقيداته ومكائده، لكن أحداث الرواية ما تلبث أن تساق وبطريقة مبررة إلى حد بعيد إلى ذلك العالم المختلف والذي يحلق بعيدا ً بأدوات ما بعد الحداثة والتي أقحمت عل شريحة واسعة من شرائح المجتمع السعودي حيث المال غير المحدود بما يجلبه معه من وسائل الرفاهية غير المتوقعة أيضا ً ولكن بما يجلبه معه من تحولات تطرأ على العلاقات الإنسانية والتي تخلخلها في العمق لنكتشف فيما بعد أن جملة التأثيرات إنما كانت ذات محصلة سلبية بامتياز وأن الترف المادي الذي نتج عن مضاربات غير محسوبة النتائج في أسواق الأسهم الخليجية بشكل عام أدى بالنهاية إلى زعزعة بل إلى ارتجاج في منظومة القيم الاجتماعية التي عادة ما تميز مجتمعاتنا الهادئة والمطمأنة في بساطتها وطيبتها، حيث يمثل الراوي بشهادته على تلك التجربة عينة ً تصلح أن تكون أنموذجاً لذلك الريفي البسيط والذي يجرفه الثراء المادي المباغت إلى مهاوي لا قرار لها. ‏
 
في عودة إلى التفاصيل والتي شكلت في حقيقة الأمر الملمح الأهم الذي أضفى على النص نكهته الخاصة بما هو تنقيب حقيقي في حياتين مختلفتين أشد الاختلاف لبطل إشكالي واحد، وكمنت قدرة الكاتب عل النسج بمهارة على منوالين متباينين بشكل صارخ فأنتج نصاً ذا صوتين أو ذا مستويين ولكل من المستوى الأول والثاني شخوصه المختلفة الأصوات بينما هي في الحقيقة ذات الشخوص ولكن الذي حصل وبكل بساطة تلك النقلة الحادة بين نوعين من الحياة، الريف القريب جدا ً من البداوة من ناحية وحياة فنادق الخمس نجوم ومقاعد الدرجة الأولى في الطائرات المتجهة والعائدة من أوروبا، وجنوب شرق آسيا، هذا التناقض الفاقع ذاته الذي وشم حياة حمدان أو أبا علي عندما دخل سوق الأسهم. ‏

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.