تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

ابن برهان بخاري في تأبينه: عند أبي يطغى الهم العام على مسائل الحياة اليومية وتضيع الحدود بين الوطن والعائلة

 

محطة أخبار سورية

تعتقد أنك تعرف هذا الإنسان جيدا لأنك عشت معه وبين جدران بيته وهو عاش معك وكان لزمن طويل جزءا من حياتك اليومية.. وتطمئن لوجوده مثل الأب أو الأخ.. أوحتى الصديق والحبيب.

 

لكنك في لحظة ما تكتشف أن ما تعرفه عن هذا الشخص لا يتعدى نقطة في محيط عالمه الواسع الممتد وأنت مهما كنت، لا تشكل إلا مساحة صغيرة تعادل المساحة التي تشكلها كأس من الماء في بحر عميق... واللطيف في الأمر أن هذا الاكتشاف لا يزعجك بل يمنحك إحساسا غريبا بالراحة. هذا ماشعرته في حفل تأبين الراحل الغالي برهان بخاري عندما التم الجميع يوم الأحد 13/حزيران في المركز الثقافي العربي في كفرسوسة.

  

 

برهان بخاري _ وهذا معروف للغالبية_ يعنيني كثيرا... فأنا عندما أقول العم برهان يسألني من لا يعرف: أهو عمك؟؟ فأجيب بل أكثر. وربما هذا واحد من الأسباب التي جعلتني أحتاج إلى وقت لاستيعاب رحيله.... لأني وغيري الكثير من المقربين كنا نعتقد أن هذا الفارس لن يترجل ببساطة.. وأنه وبقرار منه سينفض غبار التعب ويعود لمصارعة الحياة بعزيمته المعتادة... لكن هذا لم يحصل. واجتمعنا بعد مرور أربعين يوما على رحيله والمفاجأة مازالت تضغط على قلوبنا الحزنى.... ‏

 

كنت أراه في عيون الناس، وشعرت أن لكل شخص حكاية خاصة مع برهان بخاري...حكاية تجعل منه إنساناً خاصا وتجعل العلاقة التي تربطه بالآخرين مميزة.. وكأن كل منا كان يشعر أن حكايته مع هذا الإنسان هي الأهم. ‏

 

في حفل التأبين وعلى الرغم من بعض الأخطاء التقنية التي حدثت أثناءه، من إضاءة وصوت وما إلى ذلك من أمور مازالت مراكزنا الثقافية – للأسف- غير قادرة على السيطرة عليها مع العلم أن كل التجهيزات المطلوبة موجودة. مما حرمنا من مشاهدة الفيلم المعدّ عن مقتطفات من لقاءاته التلفزيونية بعنوان (حاضنة ووطن) ومن الاستماع إلى صوته وهو يقرأ قصيدة بعنوان (سماء واحدة فوق كل الأوطان) بشكل جيد. ‏

 

على الرغم من ذلك، كان الحفل يشبهه كثيرا.. بحميميته وتنوعه وتعدد أطيافه... وشعرنا أن تلك الأخطاء تشبه النكات السمجة التي قد يلقيها البعض في الجلسات العامة فتثير الغضب للحظة وما يلبث أن يعود الجميع لمتابعة حواراتهم بوجه سمح وقلب مفتوح..ربما هذا ما تعلمناه من برهان بخاري أيضا. ‏

 

ولأنه كان يحب الحياة بكل بهجتها.... استهل الحفل بمعزوفة موسيقية قدمها الفنان والصديق أبان الزركلي على آلة الكمان بإحساس مرهف جعلت الصمت يخيم على الصالة. ‏

 

كلمات الأصدقاء ‏

 

بعدها جاءت كلمات الأصدقاء التي تسلسلت حسب تاريخ معرفة كل شخص به فكانت البداية مع من جمعته به مقاعد الدراسة في ثانوية أمية في دمشق الأستاذ عبد القادر قدورة صديق أيام الشباب والشاهد على مراحل التكوين الأولى التي تحدد ما سيكون عليه الشخص. حيث تحدث الأستاذ قدورة عن العلاقة التي ربطتهما في خمسينيات القرن الماضي وعن أيام الشغب وفورة الشباب التي قضاها معه، وكيف جمعهما الهمّ العام أكثر من الخاص وكيف كانت الأمور الثقافية والاجتماعية والسياسية تطغى على أحاديثهما ونشاطاتهما كلها... ثم كيف سار كل منهما في طريق ولو تباعد أحيانا فإنه يرجع ليتقارب في أحيان أكثر. ‏

 

واسترجع ما كتبه الباحث الراحل برهان بخاري في تقديم الكتاب الأول له حيث قال: «من البدهي ألا يخطر ببالنا ونحن على مقاعد الدرس أن نصير ما صرنا إليه.. مع أن السياسة كانت تجري في عروقنا..... أرجو أن نرى في هذه الباكورة شيئا من حماسنا وطموحنا في ثانوية أمية معا». ‏

 

الدكتور محفل

 

بعده صعد المنصة بأعوامه التي تجاوزت الثمانين، الدكتور محمد المحفل، وبألم واضح بدأ كلمته بتذكر تلك الأمسية قبل قرابة العشرين عاما في بيت أبي طرفة (عدنان بغجاتي) احتفالا بعيد ميلاده السابع والخمسين وكان فيها خمسة من الأصدقاء هم ناظم كلاس وفاتح المدرس وبرهان بخاري وهو ومضيفهم... وكيف غادروه جميعا واحداً تلو الآخر. أبو طرفة لم ينتظر تمام الأسبوعين وبعده بعامين رحل ناظم كلاس وبعده فاتح المدرس واليوم برهان.. قائلا «وبقيت وحيدا بعد رحيلكم». ‏

 

وبحزن شديد تذكر أيضا الكثير من المشاريع التي عمل فيها مع الراحل مثل مشروع (إعادة كتابة تاريخ العرب) وغيرها من المشاريع التي استطاع بعضها رؤية النور والبعض الآخر ظل حبيس الأدراج لأسباب كان منها بيروقراطية الدوائر الحكومية. ‏

 

ناصر قنديل ‏

ومن لبنان جاء الأستاذ ناصر قنديل. جاء وفي جعبته الكثير ليقوله، فلقد عاصر إحدى أهم المراحل حيث سافر برهان بخاري إلى بيروت من أجل مشروعه في مجال محو الأمية وأثناء وجوده هناك اندلعت الحرب الأهلية فقرر البقاء والمشاركة ومتابعة العمل على مشروعه وهناك التقى الأستاذ ناصر قنديل... وقضى معه عاما كاملا. عن هذه الفترة تحدث الأستاذ ناصر قنديل قائلا: ‏

 

«برهان بخاري عندما افترقنا لم يكن في ذهني أننا سنلتقي في يوم آخر. بقي الاسم بالذاكرة... اسم داعية ومصلح، كأنه آت من كتاب تاريخ. وأنا لا أنكر أني تتلمذت على يديه وتعلمت منه الكثير.. لكني لا أعلم حتى الآن، رغم أني لم انس اسمه نهائيا، لماذا لم أذهب للبحث عنه... بقي بالنسبة لي الطيف الذي لا أريد أن أراه يذبل.... أحمل الكثير من الذكريات عنه. عام كامل نتشاطره في جنوب بيروت عشية اندلاع الحرب الأهلية. كنا نخطط (الأستاذ) ومجموعة من المتطوعين وأنا كنت واحداً منهم كيف تنهض الأمة، وأن أمة تنتشر فيها الأمية لا يمكن أن تنهض وكان الأستاذ (برهان) يضيف أن الأمة التي فيها المرأة أمية لا تنهض». ‏

 

وأضاف: «لكن مشروعه الإصلاحي والإنساني قصفته الحرب ومزقته أشلاء كما قصفت لبنان ومزقته». ‏

 

وختم قائلا: «كان برهان بخاري لا يحب أن يكتب إلا بالقلم الرصاص وكانت المبراة إلى جانبه دوما فسألته يوما عن سر تعلقه بقلم الرصاص فقال لي: تذوب ممحاة قلم الرصاص ولا ينكسر رأسه حتى يذوب الجسد... هذا هو برهان بخاري». ‏

 

وكان آخر الأصدقاء المتحدثين الدكتور نبيل طعمة الذي وإن كان قد تعرف عليه متأخراً إلا أنه كان بجانبه في السنوات الأخيرة... فبعد أن فضت الضوضاء قليلا من حوله وبعد أن شعر بالأسى لرحيل عدد كبير من أصدقائه، اعتكف برهان بخاري مبتعدا عن أشياء كثيرة كانت، بقدر ما تعطيه الإحساس بالحياة، تقلقه. ‏

 

في تلك المرحلة كان الدكتور نبيل طعمة، واستمع لآخر أفكاره ومشاريعه وأحلامه التي لم تتوقف لحظة. وتحدث في كلمته عن المشاريع التي عمل عليها بخاري من موسوعة الشعر إلى موسوعة الحديث الشريف وموسوعة نزار قباني وغيرها الكثير.. وأخيرا تمنى أن تخرج كل المشاريع التي فكر فيها وأعدها الباحث الراحل برهان بخاري ويتم استكمالها لترى النور بأقرب وقت ممكن. ‏

 

الابن الوحيد ‏

 

وفي ختام الحفل تحدث عرفان بخاري الابن الوحيد لأخوات أربع هم ساما ورانيا وكرامة وغالية، باسم العائلة، تحدث عن والده كما يراه وكما هو. وبصعوبة حاول جاهدا منع دموعه التي ترقرت في عينيه... ربما لأنه كان يعرف أنه لو تهدج صوته لشاركه الجميع بالبكاء.... مؤكدا في كلمته أن الولد سر أبيه. قال عرفان: ‏

 

«لست بصدد الحديث عن برهان بخاري المفكر والباحث والعالم والمخترع والسياسي والمثقف والناشط والفاعل، بل أنا بصدد الحديث عن الإنسان، والدي الذي رباني أخواتي وأنا، تلك الشخصية الفذة التي حباني الله نعمة أن أكون لصيقاً بها، أتعلم منها وأعمل معها، يمنعني الكبرياء الأجوف أحياناً من الاعتراف بصحة مقولاتها وتصرفاتها، فأناقشها وأتخاصم معها، لأعود واتكئ على حب الأب لوحيده كصك غفران لجميع ذنوبي. ‏

 

من المهد إلى اللحد

 

وأضاف: «اليوم سأتحدث عن الرجل الذي أرحت رأسه في اللحد وهو الذي طالما هدهدني ووضعني في المهد، موقناً أن نهاية رحلته في هذه الحياة إنما هي بداية لرحلة جديدة يجتمع فيها مع أصدقائه الذين ضوره الشوق للقياهم، يستمع وإياهم إلى أنغام سيبيليوس، ويتأملون معاً تلالاً بيضاء ينعكس عليها نور فجر عظيم قضوا حياتهم جاهدين ليبزغ ويضيء حياة من خلفوهم بعدهم. ‏

 

لكني أدرك أن أبي كما كانت حاله دائماً لن يجعل من هذا الأمر مهمة سهلة، فعند برهان بخاري يطغى الهمّ العام على الأمور العائلية ومسائل الحياة اليومية، وتضيع عنده الحدود بين الوطن والعائلة، فتأمين لقمة العيش لأسرتك والأمن الغذائي الوطني هما وجهان لعملة واحدة، وتزويد أبنائك بأفضل تحصيل أكاديمي مرتبط برفع المستوى العام للتعليم، ودفع فاتورة كهرباء البيت لا يمكن فصلها عن حل مشكلة الطاقة، وإن أكرمك الله واستطعت أن تعيش في سعة فيجب عليك ألا تنسى آلاف الفلاحين الذين ينظرون متحسرين إلى حقولهم التي ضربها الجفاف، فكانت متابعته الحثيثة لمعدل هطول الأمطار دافعاً لأن تسأل إحدى صديقات أمي يوماً «لك دخلكون أبو عرفان شو زارع؟».» ‏

 

في الختام شكر عرفان بخاري جميع الحضور ورافقهم لمشاهدة معرض الصور الفوتوغرافي المقام في بهو المركز والذي وثق لأهم مراحل حيات الباحث الراحل برهان

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.