تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

راع والعاصفة.. سردية تتسق مع المضمون!

ليست السردية وحدها، بل اللغة معها، تمران بمراحل مختلفة، وبسلاسل ثقافية لا تبقى هي ذاتها، وإنما تنتهي تدريجياً سلسلة، لتولد تدريجياً سلسلة أخرى، ويكون، بين هذه السلاسل قطع، ويكون الوصل، حيث يحمل رحم السلسلة القديمة، جنين السلسلة الجديدة، التي تفرض نفسها، وتنتصر، مهما تكن المعارضة لها قوية، وذات نفوذ وسلطة واسعين، فمبدأ التغيير، وانتصار الجديد على القديم، لهما نسب مع سنة التبديل، و«لن تجد لسنة التبديل تبديلاً».

 

 

لقد دارت معركة في ثلاثينيات القرن الماضي، بين أنصار القصة والرومان –كما كانت تسمى الرواية- وبين معارضيهما، وكانت ذروة هذه المعارضة، التي توسلت كل طرائق الاتهام والتجني، تتمثل بعباس محمود العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وأحمد حسن الزيات، صاحب مجلة «الرسالة» وكانت قمة التأييد، للقصة والرواية، تتمثل بكرم ملحم كرم، ومارون عبود، ومحمد لاشين، في لبنان ومصر والبلاد العربية الأخرى، وكان من البدهي أن يتغلب أنصار القصة والرواية، على معارضيهما، وأن تنقطع سلسلة ثقافية قديمة، تقوم على البلاغة والسجع والإنشاء، وتنشأ سلسلة ثقافية جديدة، تقوم على نصرة المفردة الجديدة، أي الكلام الخالي من البلاغة والسجع والإنشاء، وتستخدم الكلام الذي يناسب القصة والرواية، وهو كلام فصيح، إلا أنه كلام الناس العاديين، من أبطال القصص والروايات، ولم تلبث هذه السلسلة الثقافية أن صارت قديمة بدورها، مخلية الساحة لسلسلة ثقافية جديدة، هي السلسلة التي امتدت من الأربعينيات حتى أيامنا هذه، وأضحى لزاماً، الآن، أن تنشأ سلسلة ثقافية جديدة، وفق ناموس التغيير والتبديل، لأن الكتابة باللغة القديمة، المرتكزة على العبارات الجاهزة، مثل «أكل الدهر عليه وشرب» و«مزقه شذر مذر» و«عاد بخفي حنين» هذه الكليشيهات المبنية على رمل القواميس، الخالية من التحليل، لم تعد صالحة لزمننا الذي يتطلب لغة جديدة، وذات أسلوبية جديدة، تقوم على التحليل، وعلى المفردة غير القاموسية بإطلاق إلخ.. ‏

 

إن سردية رواية «الشراع والعاصفة» كانت بنت مرحلتها ظاهرياً، لكنها، في المضمر، كانت بنت هذا الوقت وما يليه، مادام الكلام عن البحر -وأدبنا العربي القديم والحديث خال منه تقريباً!- يعد جديداً في مفرداته وتعبيراته، فقبل «الشراع والعاصفة» لم تكن ثمة رواية بحرية، رغم أن العرب جميعاً يعيشون على شواطئ البحار، وكل ما كان في القديم نتفاً من حكايات بحرية سندبادية. ‏

 

وكل ما كان في الجديد قصصاً قصيرة، تتحدث عن الصيادين وتخوم البحر التي لا تتعداها إلى أن صدرت «الشراع والعاصفة» فكانت ملحمة البحر، أو قصيدة البحر، كما سماها النقاد، وقد نحت بطلها محمد بن زهدي الطروسي «من أندر المعادن» حسب تعبير الناقد الكبير المرحوم غالي شكري، في كتابه «الرواية العربية في رحلة العذاب». ‏

 

إنني لست في صدد تلخيص هذه الرواية، فالروائي لا يلخص روايته أو يحللها، ومن شاء أن يقرأها ملخصة، وبدقة، فليقرأ كتاب «شخصيات روائية- نماذج مختارة» لمؤلفه فتحي عبد الحافظ، الصادر عن «دار غريب» للطباعة في القاهرة، عام 1998، وسيجد مع التلخيص تعليقات على كل فصل، يكفي أن أشير إليها، كما سيجد، في ملخص كل فصل، الصدقية الضرورية، لإثبات أن سردية هذه الرواية، سردية راهنة، ذات إضافة مستقبلية، ذلك أن سردية «الشراع والعاصفة» تبدو عادية، في القراءة الاطلاعية، وهذه السردية العادية يتوافر لها شرطان، يجعلانها في غير العادية، حتى بالنسبة للقراءة لأجل المطالعة، وهذان الشرطان هما: الإيقاع والتشويق، ففي الإيقاع يتبدى السرد رهواً حيناً، متوتراً حيناً، هادئاً تارة، هادراً طوراً، وفق نمو السياق الروائي، دونما تعسف أو افتعال أو صراخ، هذه الآفات التي تقتل الإبداع، لأنها، قبلاً، تقتل سويته الفنية، أما التشويق فإنه يشد القارئ إلى ما يقرأ، يأخذه إليه، كما هو الفيلم السينمائي الجيد، ويروضه حين تبدأ أحداث الصراع مع البحر، خلال العاصفة التي تنبثق من الصمت، جاعلة المركب، أو السفينة، مثل طاسة مفرغة، مدورة، يلهو بها الموج، قبل أن تغيبها اللجة في القاع، أو تكتب لها النجاة، بشكل ما، خارق، غير مألوف، وغير مسبوق أيضاً. ‏

 

وحتى مع استعمال واو العطف، تبقى السردية في هذه الرواية، مغايرة للسردية في الروايات المجايلة لها، ومرد ذلك إلى أن رشاقة السرد، أو شاعريته، تخفف كثيراً من أثر واو العطف هذه، لكن عليّ أن أشير إلى أن هذه الواو، لم تعد صالحة الآن، مع تطور السردية، في القصة والرواية والمسرحية والمقالة، وحلول الطقس البرقي، الذي تنتفي منه أحرف العطف، لأنها تتجانف مع الجملة القصيرة، المتدافعة، التي تلعب فيها الفواصل والنقاط وعلامات التعجب والاستفهام، دوراً مميزاً يتلاءم تماماً مع السلسلة الثقافية الجديدة.‏

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.