تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

صورتنا في الفن الاستشراقي:واقع تاريخي.. أم استعلاء ثقافي

محطة أخبار سورية

 في كتابه «الاستشراق» بيّن ادوارد سعيد: أن الاستشراق نظام منهجي تمكنت الحضارة الأوروبية عبره من دراسة وتصنيف .

وحتى انتاج الشرق سياسياً واجتماعياً وعقائدياً وعلمياً وحتى خيالياً في فترة ما بعد عصر التنوير، وقد ساير معظم الفن الاستشراقي المشروع الاستعماري في خطواته مصوراً أو متخيلاً ومبرراً ومؤججاً ونادراً ما كان موضوعياً أو ناقداً أو مصححاً والنتيجة أن الشرق نفسه قد اختفى تحت غلالة تمثيل ذي امتدادات بغيضة من تركيز على غرائبية الآخر الشرقي في تاريخية قديمة لا تمت بصلة للعصر. ‏

بمقولة ادوارد سعيد يلخص الدكتور ناصر الرباط أستاذ العمارة الاسلامية ومدير برنامج الآغا خان في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا محاضرته التي ألقاها في مكتبة الأسد بعنوان «صورتنا في الفن الاستشراقي: واقع تاريخي أم استعلاء ثقافي ضمن فعاليات أربعاء تريم الثقافي التي يقيمها مركز تريم للعمارة والتراث برئاسة المهندسة ريم عبد الغني موضحاً أن صدور هذا الكتاب سبب ثورة نقدية منذ أكثر من ثلاثين سنة مما غير من معنى ومضمون الاستشراق وكل الدراسات والاهتمامات الاستشراقية تغييراً لا تراجع بعدها. ‏

 

غزو العقول

يوضح الدكتور الرباط أنه لا يمكننا فهم الاستشراق والفن الاستشراقي بمعزل عن المشروع الأوروبي الأكبر والأهم في العصر الحديث الاستعمار والذي تبنى الاستشراق ووجه خطاه واستفاد منه في توسعه وسيطرته على الشعوب الشرقية مبيناً أن اللوحات الاستشراقية التي تدعي تمثيل مناظر حقيقية من الحياة اليومية للشرقيين والمقصود في أغلب الأحوال العرب في بلاد الشام ومصر والمغرب لا يمكنها حقاً ادعاء الواقعية أو الموضوعية فهي لا تمثل شرقنا التاريخي بل حتى أنها لا تمثل شرقاً حقيقياً، لأنها ما هي في الحقيقة إلا انطباعات أتت نتيجة أفكار وتخيلات ودراسات تخلق عبر أساليب الصنعة من رومانتيكية وواقعية وانطباعية وغيرها صوراً (واقعية) للشرق المتخيل ثم تثبت هذه الحقيقة الواقعية من خلال انتاجها فنياً على سطح اللوحة نفسها بدرجات متفاوتة من الحس الفني لكن بمحتوى متشابه من المعنى وهي في نتيجة الأمر تعطينا صوراً مصنوعة ومركبة ومسيسة ومبنية على قياس الاستشراق الطويل والذي يعود إلى ما قبل بدء الفترة الاستعمارية في بداية القرن التاسع عشر. ‏

 

صناعة الشرق

ويؤكد الدكتور الرباط أن صناعة الشرق في أوروبا قديمة قدم العلاقة بين أوروبا والشرق الاسلامي اعتمدت منذ البداية على مزيج معقد من الملاحظات والدراسات والخيال والرغبة والعداوة والخوف وكان نتاج هذه الصناعة ما يسمى بالشرق في الأدبيات الأوروبية القروسطية وفي الفن الأوروبي أيضاً مبيناً أن هذه الصورة التي ترسخت لدى القارئ والمشاهد الأوروبي عن الشرق هي: مكان غرائبي طبيعة وعرة وخلابة «صحارى شاسعة» جبال شاهقة يقطنه أناس غريبو الأطوار، يلبسون ثياباً فضفاضة وبراقة وغيرها من الصور والصفات موضحاً أنه على الرغم من تطور تفاصيل صورة الشرق بتطور معلومات أوروبا عن هذا الشرق بعد عصر الاكتشافات الكبرى في القرنين السادس والسابع عشر إلا أن الشرق المسلم والعربي ظل محافظاً على مركزه في الوعي والخيال الأوروبي مشيراً إلى أنه حتى بعد أن جلبت حملة نابليون أوروبا إلى الشرق وعادت بالشرق إلى أوروبا وفتحته للسياحة العلمية والثقافية وكان من نتائجها ظهور الفن الاستشراقي الواقعي ورواجه لتلبية حاجات السوق البرجوازية الأوروبية الناشئة التي كانت متعطشة لكل ما هو شرقي غرائبي، إلا أن معرفتهم الجديدة بالشرق لم تمنعهم من إلغاء دور الخيال بتعاملهم مع هذه المنطقة بل والاعتماد على الخيال المقولب ثقافياً بتصوير الشرق. ‏

 

مدلولات الفن الاستشراقي ‏

تخللت محاضرة الدكتور الرباط عرض عدد من الأعمال الفنية واللوحات محللاً هذه الأعمال مبيناً الرابط الشديد في مدلولات الفن الاستشراقي وتعلقها بالمخزون التاريخي من الصور المتخيلة والغرائبية في اعادة صياغة صورة الشرق في الوجدان الأوروبي وفي تطور الأنواع الفنية والأدبية المختلفة لتصوير هذا الشرق على الرغم من الاختلاف الواضح في المواضيع ومن تباين درجات المهارة والدقة الفنيتين ومن تفاوت القيمة الفنية للوحات موضحاً أن لوحة الفن الاستشراقي يمكنها أن تمثل المرساة المادية التي تؤطر الصور الثقافية العديدة التي يختزنها ذهن المتفرج سواء زار هذا المتفرج الشرق أم لم يزره خصوصاً إذا كان مشبعاً بالأدب الاستشراقي كما كان الحال مع غالبية مثقفي القرن التاسع عشر الذين كبروا على الروايات الشرقية الخيالية مشيراً إلى القوة الايحائية والتأويلية التي يمكن للوحة واحدة أن تمتلكها بالنسبة للمشاهد. ‏

 

«نامونا» أقصوصة للشاعر الفرنسي الفريد دومونسيه 1833 ضمن مجموعة شعرية بعنوان مشهد في أريكا يقول في الأقصوصة مع أن هذه القصة تدور أحداثها في الشرق.. فأنا في الحقيقة لم أذهب إلى الشرق قط لأنه بعيداً جداً وواسع جداً بحيث أننا يمكننا بفضل الذاكرة أن نستخلص منه ما نشاء ‏

 

لوحة الملك البابلي المتخيل للفنان ميشيل دور لاكردا المرسومة بألوان متفجرة فاقعة وظلال وأضواء نفاذة حول سرير الطاغية الملك الذي يستلقي ساهياً عن كل الدمار الحاصل حوله... علماً أن الفنان استلهم اللوحة من قصيدة للشاعر الانكليزي اللورد بايرون ونشرت عام 1821 وهو شاعر مفعم بالمشاعر المعادية لكل ما مثله الشرق في حين ‏

 

لوحة ميدان قاهري مع شجرتي خروب عملاقتين في مقدمة الصورة وبيوت وجوامع في خلفيتها تحت سماء نيلي ساطعة مع بعض الشرقيين غير واضحي المعالم وتحت ظلال الشجرتين للفنان الفرنسي غوسيه ماريا استثارت في نفس الناقد غوتييه جملة من المشاعر علماً أنه عندما زار مصر عام 1869 لم ينس أن يعلق أن لون السماء في مصر لازوردي ولا يشبه في شيء اللون النيلي. ‏

 

لوحة سالومييه ‏

 

يشير الدكتور الرباط أن تأثير الفن الاستشراقي لم يقتصر على تأجيج المشاعر الرومانتيكية في قلوب مشاهديه الأوروبيين بل أنه ساهم في تأطير انطباعات عن الطباع والعادات والتقاليد الشرقية والصورة المسبقة التي حملتها أوروبا عصر الاستعمار عن أخلاقيات العالم الشرقي التي كانت تنضح اشمئزازاً واستهجاناً لهذه الأخلاقيات التي وصفت بأنها مزدوجة المعايير.. ‏

 

وقصة سالومييه معروفة وهي الفتاة التي قبلت أن ترقص أمام زوج أمها هيرود مقابل رأس يوحنا المعمدان وأضحت سالومييه رمزاً سلبياً في الثقافة المسيحية ويتوقف المحاضر مطولاً عند لوحة سالومييه للفنان أونرييه دورونيو نظراً لما وضع الفنان فيها من مرمزات قوية مدسوسة تلعب على وتر الشرق العنيف والبربري والمتوحش تجعل المشاهد لا يخطئ فوراً نسبتها إلى الشرق وتطلق في ذهنه مجموعة من الانطباعات والصور الثقافية مؤكداً أن هذه اللوحة لا تتوالى عن إثارة قلق المشاهد في مركز التشكيك حيث تمتزج الرغبة بالقلق والخوف بالمنظر الدموي التي توحي به اللوحة مستبقة الحدث بما ينعكس سلباً على صورة الشرق. ‏

 

الدور الأساسي ‏

 

ويختتم الدكتور الرباط مؤكداً على أنه لايمكننا اليوم استخدام اللوحات الاستشراقية بالبراءة نفسها التي يستخدمها كتابنا ومجلاتنا وتلفزيوناتنا لتصوير حياة الماضي القريب، كما لو كانت المعيار الصحيح لتمثيل هذا الماضي، كذلك لايمكننا اعتبارها صوراً فنية عابقة بتراثنا دون أن نعي دورها التاريخي الأساسي في خدمة المشروع الاستشراقي والاستعماري وفي تبريرهما وفي تمثيل نظرتهما للشرق.. وكل الوقائع المعاصرة مازالت تثبت أنه على الرغم من انفتاح حضارات العالم على بعضها البعض وعلى الرغم من انتشار حضارة الاستهلاك وطغيانها على كل التعبيرات المحلية في العقود الأخيرة، فصورة الشرق الاستشراقية مازالت هي السائدة بل والمسيطرة في المخيال الغربي وللأسف في المخيال العربي والإسلامي.  

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.