تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

جديد المؤرّخ مازن يوسف صبَّاغ:{البناء السوري وحدة التنوع والتعدّد}

مما يسترعي الانتباه في حياتنا الثقافية والفكرية وبتحديد أدق في السنوات العشر الأخيرة، تلك المؤلفات المتنوعة التي أصدرها الدكتور المؤرّخ
مازن يوسف صبَّاغ، لاسيما الكتب التي تخصصت بالتوثيق الأمين للحياة السياسية السورية بين عامي /1918 ـ 2010/، وكذلك توثيق حياة الشخصيات الوطنية السورية والعربية والعالمية، أو لأحداث تاريخية هامة جرت في سوريا من خلال علاقاتها الدولية والإقليمية، وبذلك سدَّ، بامتياز، ثغرة كبرى لم ينتبه إليها أحد في عالم التأليف والتصنيف والتوثيق.

وللإنصاف فإن حياة المؤرخ مازن صبَّاغ، زاخرة بألوان وظلال المعرفة الإنسانية وفنونها، فهو من الشخصيات الفكرية المتميزة برجاحة العقل، وبحصافة الرأي الحر، وتحكيم الضمير والوجدان فيما يطلق من آراء وقناعات، لأنه نذر عمره، حتى هذه اللحظة، لمجد العرب.. ولحرية الفكر دون عقد نفسية أو موروثات ظلامية، ولتكريس عظمة سوريا في الشرق وفي الغرب، كأنموذج حضاري يقتدى، في عصر تعاني فيه الكثير من الدول من حالة تدهور السلم الأهلي... وانحداره نحو الصراع الدامي.

وبالرغم من المواقع التي شغلها، محلياً وعربياً، فإنه لم يقطع صلته بعقل مفتوح وصولاً إلى وحدة الصف ووحدة الموقف.

لقد أخرج لنا الدكتور صبَّاغ مؤلفات قيمة تشي بوعيه الفكري، وقدرته على التحليل والتركيب والمناقشة الواعية المسؤولة، بخاصة وأنه ابتكر لنفسه خطاباً معرفياً، بعيداً عن اللغة الخشبية المحنطة، يجمع بين الحرارة والشفافية والتأثير الخطابي المتطور، وبذلك ترك بصمة على مؤلفاته ومصنفاته، مما دفع ببعض المتأدبين الجدد على محاولة تقليده، فكانت النتيجة المؤسفة، أنهم أضاعوا وقتهم ووقت القرّاء، بكتب هي أقرب إلى «الريبورتاج» الصحفي المتقطع.

أما الكتاب الجديد للدكتور مازن صبَّاغ الذي نحن بصدد عرضه، فهو يحمل اسم: «البناء السوري وحدة التنوع والتعدد»، فقد جاء في وقته وفي زمنه الصحيح، ونحن نشهد في هذه الأيام ما تحيكه «إسرائيل» وبعض القوى الغربية المعادية للأمة العربية، من مكائد وأشراك تستهدف تعكير صفو السلم الأهلي في الوطن العربي، بخاصة وأن «الموساد» يتحمل مع جهات غربية أخرى، مسؤولية إثارة الفتن والصراعات بين أبناء الشعب الواحد، من أجل إلهاء العرب وإضعافهم، ولجم حركة التحرر الوطني وشل الإرادة العربية، وصولاً إلى إنهاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ليحل محله الصراع العربي العربي، ومن ثم الاقتتال بين أبناء الشعب الواحد.

يقع كتاب «البناء السوري..» في /805/ صفحات من القطع الكبير، وهو من إصدار دار الشرق بدمشق. وقد قسّمه مؤلفه الدكتور صبَّاغ إلى مدخل عام وأربعة أقسام رئيسة بمثابة الأبواب أو الفصول الكبرى، وهنا أتمنى على قارئ هذا الكتاب أن يقرأ أقسامه بالتسلسل، فلا يقرأ بدافع الفضول فصلاً لاحقاً قبل فصل سابق، حيث تغيب عنه في هذه الحالة الخطوط الهامة في هذا الكتاب، التي ينبغي الوقوف عندها. فضلاً عن الأقسام الأربعة فقد تضمن الكتاب ملاحق حول حقوق المواطن، وحرية العبادة، وممارسة الشعائر الدينية في (الدساتير السورية) بين عامي /1920 ـ 1973/ وفي الدستور الدائم المعمول به في بلادنا، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وحقوق الإنسان في الإسلام.

يقول الدكتور صبَّاغ في افتتاحية كتابه ما معناه: تمتع شعب سوريا عبر العصور القديمة بميزة القدرة على نقل إبداعات إلى أمم الأرض شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، ولم يتوقف عن أداء هذه الرسالة في أي عصر من العصور، وإذا كانت السمة الحضارية بدأت مع الإنسان العاقل، فإن شواهد هذه الحضارة موجودة على طول البلاد السورية بهيئة آثار وقصور ومنحوتات ولوحات ورقم رائعة، تؤكد رقي الدور السوري في رفد الحضارات المتعاقبة والتأثير فيها، بما اكتسبته من مهارات وخبرات، وبما أضاف إليها من وحي فنه وابتكاره...

ويضيف المؤرّخ صبَّاغ: لقد أولت العبقرية السورية في تاريخها الجغرافي طبيعة فريدة من نوعها في المسيرة الإنسانية، فاحتوت الأديان والمذاهب المختلفة والمتعددة، إلى جانب تعاقب الحضارات عليها، لتجعل من سوريا حالة فريدة من التعددية لا مثيل لها...

ويطلق الدكتور صبَّاغ في كتابه الجديد فكرة نبيلة علينا نشرها وتعميمها في حياتنا العربية دون تردّد، لأن فيها خلاصنا الجماعي، من أجل نهضة شاملة.. ويقظة فكرية واعية، تدحر جيوش الظلام، وتزيح السلبيات النمطية الموروثة من عصور الفتن والتناحر.. يقول الدكتور صبَّاغ:

إن العالم بحاجة ماسة لتعزيز قيم الإنسان الطيبة والوسطية والمعتدلة، ومحاربة التطرّف والعنف سواء على الصعيد الشعبي أو الأهلي أو الرسمي.

إن التقارب بين جميع السوريين: مسلمين ومسيحيين، علمانيين ومؤمنين، يساريين وليبراليين، قوميين وأمميين، عرب وأكراد وشركس، أرمن وشاشان وتركمان، وأرناؤوط، وداغستان وبخاريين وأوزبك وبشناق، وأمازيغ وعجم، وإغريق... وجمع كلمتهم دعماً لقضايا الأمة العربية، شرط أساسي لتدعيم قواها وتعزيز صمودها في وجه كل من يتربص بها ويكيد لها المكائد. إن سوريا رسالة ووطن، يجب علينا جعل هذه الرسالة، رسالة العيش المشترك والوجود المتنوع للنسيج السوري الذي هو جوهر كيان هذا البلد.

وينهي الدكتور صبَّاغ فكرته المعمقة، التي تحتم علينا تأملها بإمعان، وتمثلها في سلوكنا الحياتي قائلاً: محكومون بالجوار والعيش والمودة والتواصل والتفاعل، لتدعيم الجسور التاريخية المبنية وبناء جسور جديدة وتعزيزها بين الناس. علينا دائماً البحث عن المشترك والموحد والمقرّب، والذي يدعو ويسعى للألفة والمودة والاستمرار، ورفد الإنسانية بالحق والخير والجمال. محكومون دائماً بالشعار الخالد: «الدين لله والوطن للجميع»، الذي كان شعار الثورة السورية الكبرى في عام /1925/.

وخلاصة القول:

* فإن الكتاب مجموعة نصوص تاريخية ومعاصرة، مختارة بعناية شديدة، ومراجع علمية ومقالات وأفكار، كتبها أعلام ومفكّرون ورجال دين، وباحثون وأقلام وطنية ملتزمة بالمواطنة، وقبول الآخر بحب ودفء ومودة خالصة من هؤلاء نذكر على سبيل المثال لا الحصر السادة: البابا شنودة الثالث، الأب
الياس زحلاوي، الشيخ حسين أحمد شحادة، الدكتور نبيل طعمة، الدكتور
محمد حبش، الدكتور محمد سعيد الطريحي، طلال سلمان، رياض محمود،
ادوار الدحداح، الدكتور حسين راغب، الدكتور أحمد برقاوي، الدكتور
مصطفى الفقي، ونجيب نصير، وعائدة سلامة وغيرهم من الباحثين والمفكّرين... المشهود لهم بالموضوعية.

* ويشمل الكتاب دراسات فكرية عن عمق العلاقة بين الناس وأديانهم ومذاهبهم في البلاد السورية.

* ويتضمن الكتاب، أيضاً، إضاءة منصفة على حياة روّاد وشخصيات، كان لها إلى جانب العديد من الرجالات دور في البناء السوري على المستوى الجهادي أو السياسي أو الثقافي. من هؤلاء القدامى نذكر: القديس يوحنا الدمشقي، الأخطل التغلبي، ابن عربي، الإمام أبو حنيفة النعمان، الحلاّج. ومن المعاصرين نذكر: سلطان باشا الأطرش، الشيخ صالح العلي، إبراهيم هنانو، عبد القادر الجزائري، محسن الأمين، محمد كرد علي، أنطون خليل سعادة، فارس الخوري، محمد حسين راغب، جورج حبش، عبد الله يوركي حلاق، وغيرهم...

هذه السلاسة في تقديم المعلومات العامة، الخاضعة لسلطان العقل، وكذلك الشمولية والمنهجية، والتزام الأمانة العلمية في مؤلفات ومصنفات الدكتور المؤرّخ مازن يوسف صبَّاغ، بنت بينه وبين قرّائه جسراً من المصداقية والثقة والمحبة.

وهذا ما يفسّر لنا رواج كتبه في الأوساط الشعبية والأكاديمية والإقبال على اقتنائها استكمالاً لمكتبتهم التاريخية، ومن ثم تدور حولها، عادة، نقاشات مستفيضة، هادئة أحياناً وصاخبة طوراً بين المثقفين وفي صفوف المنظرين، فما بالنا إذا كان النقاش والسجالات والجدل بين سياسيين أو دعاة تجديد الخطاب الديني.

ومهما تكن النتيجة.. فإن الأمر برمته في نهاية المطاف، ظاهرة صحية تنفض الكسل الذهني، وتدعونا إلى التفكير في المسكوت عنه، بصوت جهوري لا تلعثم فيه، ما دام الأمر يتعلق بمستقبل العرب في الألفية الثالثة، وبمجد سوريا التي نعتز جميعاً بشرف الانتماء إليها، لأنها تمثل خلاصة العصور والدهور، وجوهر الحضارات الإنسانية الزاهية.

 

ـــــــــــــ

* البناء السوري وحدة التنوّع والتعدّد.

إعداد وتحرير وتوثيق مازن يوسف صبَّاغ.

805 صفحات 17 × 24 سم.

الناشر: دار الشرق ـ دمشق ـ د. نبيل طعمة.

 

بقلم: هاني الخيِّر

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.