تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الاتجار بالأعضاء البشرية ؟!!

مصدر الصورة
SNS


عالم الجريمة لا يعرف المستحيل هذه حقيقة واقعة. فمازالت العقلية الإجرامية الآثمة تُعمل فكرها نحو استحداث أنماط إجرامية متطورة بتطور الزمن الذي نعيش فيه, ولقد انتهز رواد الجريمة وخبراؤها الطفرة العلمية الهائلة التي سجلها الطب في مجال زراعة الأعضاء البشرية, وأصبح الإنسان فيه سلعة, شأنه في ذلك شأن الآلة أو الحيوان في زمن يتباهى العالم الحر فيه بإلغاء العبودية والرق ويتفاخر بأنه كرس حقوق الإنسان..!  

تجارة لم تراع أدنى اعتبار لكرامة الإنسان وآدميته التي كرّمها الله وخلقه في أحسن تقويم, فكانت بحق تلك الجريمة من أهم الأخطار والافتئات على القانون, لا سيما في ظل الوضع الراهن الذي تشهده سورية وانتشار الجريمة المنظمة. وقد طالعتنا الصحف ووسائل الإعلام عن مئات السوريين في مخيمات اللجوء الذين كانوا عرضة لهذه الجريمة البشعة بلا رادع أو ضمير. ومن المحزن أن هذه الظاهرة التي تصفع الإنسانية والتقدم العلمي, لا يكون ضحيتها في الأغلب إلا الفقراء. وقد شهدت هذه التجارة في الأعوام الأخيرة في كثير من دول العالم، وخصوصاً بلدان العالم الثالث والربيع العربي، رواجاً كبيراً لم تشهده من قبل بسبب الفقر وانعدام الأمن. ولاشك أن هذا النوع من الإجرام مرشح للمزيد من الانتشار في ظل "الفوضى الخلاقة" الأمر الذي يدفعنا إلى تسليط الضوء على هذه الظاهرة وما تثيره من مشاكل، حيث أنها لم تعد قاصرة على حالات فردية متفرقة, وإنما أصبحت واقعاً مرعباً يتسم بالخطر العالمي.

وفي وقت سابق، كان تقرير للأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعالجة المجرمين المنعقد في القاهرة عام 1995 قد أشار إلى تلك الأنشطة ذات الطبيعة المتزايدة الخطورة, ومنها الاتجار بأجزاء من الجسم البشري. وذكر التقرير حالات موثقة للاتجار في كثير من دول العالم منها الهند والبرازيل والعراق ومصر. وكان معظم المشترين من الألمان والايطاليين والسويسريين. وقد جاء في تقرير منظمة الصحة العالمية في الدورة 79 لعام 1986 بحظر بيع العضو البشري, لأنه من الأعمال غير الأخلاقية. ونشرت  صحيفة الأهرام تحقيقاً مطولاً عن سوق الكلى في مصر بعنوان "من يبع ومن يشتري"، جاء فيه: (إن سوق الكلى قد تحولت في مصر إلى تجارة ووساطة وسمسرة بل أنها وصلت إلى حد الاختطاف وإجراء عملية الزرع في الظلام لتركيبها لإنسان آخر). وفي إحدى الحوادث المشهورة في مصر في محافظة سبين أقدمت إحدى الجمعيات الأهلية لرعاية الأطفال اللقطاء على بيع أجساد 32 طفل للمستشفيات الاستثمارية مقابل مبالغ طائلة من المال.

وإذ كان المشرّع السوري قد بادر مبكراً إلى تنظيم عملية نقل وزارعة الأعضاء بالقانون /31/ لعام 1972 والمعدل بالقانون /43/ لعام 1986، وحدد الشروط والحالات التي يعد نقل الأعضاء البشرية مشروعاً، فإن ذلك يدفعنا إلى قصر بحثنا على الجانب المظلم أو غير المشروع من تلك العملية، لاسيما وأن حق الإنسان في سلامة جسده وحقه في الحياة هي من الحقوق اللصيقة بشخص الإنسان, بل هي من أغلاها وأعلاها مرتبة، والاعتداء عليها بغرض الحصول على عضو من أعضاء الجسم يعد داخلاً ضمن إطار التجريم القانوني, سواء رضي المجني عليه أم لا. ويكون الفعل مستوجباً للعقاب بالنظر لما يشكله من انتهاك لمبدأ حرمة الجسد التي كفل المشرّع السوري في الباب الثامن من الكتاب الثاني من قانون العقوبات حمايتها.

ويقول بعض الفقه بجواز بيع الأعضاء البشرية, معتبراً أن رضاء البائع أو المتنازل هو أساس الإباحة في عملية البيع. فإذا كانت الهبة لجزء من جسم الإنسان حال حياته تعتبر مشروعة فهي من باب أولى أن تكون مشروعة ويكون للمتصرف حق الاستفادة من هذا العضو بعوض طالما لا يعرض حياته للخطر, ويعللون مذهبهم هذا بالقول: أن التصرف ببيع العضو البشري لا يتنافى مع الكرامة الإنسانية وإنما على العكس من ذلك، يتضمن معان إنسانية تهدف إلى إنقاذ حياة مريض من الهلاك المحتوم, خاصة أن الأحكام الشرعية أجازت بيع اللبن بموجب عقد الرضاعة (إجارة الظئر) واللبن هو من أعضاء الإنسان القابلة للتصرف عند الشافعية والمالكية والقياس هنا جائز إذ يقاس الدم والأنسجة على اللبن. وحتى لا يترك الأمر فوضى، يقترحون على المشرّع الوضعي أن ينظم عملية البيع من خلال إصدار صك تشريعي تذكر فيه أثمان الأعضاء البشرية المنوي التعامل بها وذلك من قبيل التسعير الجبري..؟  

غير أن هذا الرأي يناهضه أغلب الفقه ويُجمع على رفض القول بالإباحة لاعتبارات أهمها:

 إن إرادة الفرد مهما علت لا تستطيع المساس أو النيل من مبدأ حرمة الجسد. فلا عبرة بهذا الرضاء لتعلق حق حفظ البدن بحقوق الله تعالى وليس للفرد التنازل عنها أو التصرف بها. فهي وديعة وأمانة وهو مستخلف، وليس له من أمرها سوى الحفظ والصيانة. فالحياة في نظر الشارع الإلهي والوضعي مقدسة بذاتها (ولقد كرمنا بني آدم). ويرى الفقه اللاتيني في هذا الصدد أن رضاء المجني عليه بارتكاب الفعل لا يمنع توافر الأركان القانونية للجريمة, وأن إلحاح المجني عليه لا يغير في الأمر شيئاً. فالفقيه الفرنسي ديموج يعتبر باطلاً كل اتفاق يتعارض وسلامة الإنسان وحياته. وكما يؤكد الأخوة مازو أن: "جسد الإنسان وحياته لا يمكن أن تكون محلاً للتعاقد، وأي اتفاق يمس سلامة البدن يقوم على الغش وهو باطل"، وأن رضاء المُعطي أو المتنازل عن عضوه مادام لا يستهدف غرضاً علاجياً بل المنفعة والحصول على المال، فهو مخالف للنظام العام. أما إذا كانت علاجاً  وبلا مقابل ووفق قواعد الفن الطبي والقانون تكون مشروعة، وبالتالي لا يمكن التذرع بنص المادة 186 ق ـ ع، والتي تنص: (أن  الفعل الذي يعاقب عليه لتعرضه لإرادة الغير لا يعد جريمة إذا اقترف برضاء المجني عليه قبل وقوع الفعل أو أثناءه)على اعتبار أن المشرّع أخرج الأفعال التي من شأنها المساس بسلامة الجسد من دائرة الرضاء.

2ـ إن فكرة المصلحة الاجتماعية التي يسوقها أنصار الاتجاه السابق والتي مضمونها أن المخاطر التي يتعرض لها المتنازل قليلة الأهمية إذا ما قورنت بالمصالح التي يحققها الغير, تبدو فكرة مغايرة للحقيقة إن لم نقل حجة  واهية فضلاً عن إنها ذريعة غامضة وخطرة, وقد يؤدي الأخذ بها إلى القضاء على الحياة الإنسانية.

3ـ لا يمكن الاستناد إلى فكرة نبل البواعث والغايات. فالجناة في الأغلب في هذه الجريمة ينقادون إلى دافع دنيء وهو الكسب. فهم يحصلون على الأعضاء بغرض بيعها والمراباة بها بعيداً عن كل اعتبار إنساني. لذلك لا يمكن الانسياق وراء الشعارات البراقة التي يرفعها أنصار الرأي السابق لأنها لا تقف أمام النقد وهي مخالفة لأبسط بديهيات القانون.

وفي ضوء هذا الجدل لا بد من البحث في الانتماء القانوني لتلك الجريمة والنصوص التي تعاقب عليها وهنا مكمن الصعوبة في ظل غياب نص تشريعي حاسم, وتعدد الوقائع التي تتألف منها الجريمة, وتعدد الفاعلين, واختلاف بواعثهم, واختلاف أدوارهم.    

وإذا كنا لا نريد الخوض في الأركان المؤلفة لتلك الجرائم وتفاصيلها الفنية الدقيقة لأنه  مما يضيق المجال بذكره هنا، فإننا سوف نقتصر على بيان أسباب التشديد الذي تلتقي به كل الأفعال المكونة للجريمة، وهو ما ورد في الفقرة الأولى والثانية والسابعة من المادة 534 ق ع والفقرة الأولى والثانية من المادة 535 ق ع.  ونعني به إقدام الجناة على ارتكاب الجريمة لسبب سافل وهو الحصول على المال جراء انتزاع أعضاء الضحية لإعادة بيعها, وهم يكشفون بهذا السلوك المتحلل من القيم والحرمات الخلقية عن شخصية إجرامية شديدة الخطورة تنقاد لأحط الشهوات والبواعث ولا تتورع عن ارتكاب أشنع الموبقات، الأمر الذي يشكل خطراً على المجتمع، أكثر من حالة القاتل الذي يُقدم على فعله تحت تأثير اندفاع طارئ لا يصمم بروية على القيام بفعله.

ولم يقصر القانون في المادة 191 ق ع معنى  الدافع على السبب أو الباعث الذي يحرك إرادة الجاني ويحمله على ارتكاب الجريمة، وإنما وسع في مداه وأطلق معناه ليشمل الغاية القصوى أو الغرض النهائي الذي يتوخاه الجاني من وراء اقتراف الجريمة وإحداث النتيجة الجرمية وهو هنا الحصول على الأعضاء البشرية بغرض بيعها. ولا شك أن هذا الفعل يتفق مع فكرة المشرّع عن السبب السافل، والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها؛ الشخص الذي يقوم باختطاف الضحية أو التغرير بها أو حملها على قبول الفعل أو يقوم بحماية الجناة أو التستر عليهم أو الطبيب الذي يشترك في عملية الاستئصال أو الزرع أو الشخص الذي يتوسط بين الجناة. وكل هؤلاء المستفيدون يكونون عرضة للتشديد الوارد في المواد 534 و535 ق ع.

وثمة ظرف آخر يسري على هذه الجريمة وهو ما ورد في الفقرة السابعة من المادة 543 أي استخدام الجاني أساليب التعذيب والشراسة في ارتكاب الجريمة، حيث تدل هذه الوحشية على نفسية متأصلة وقسوة بالغة مما يستدعي تشديد العقوبة، على اعتبار أن أغلب التشريعات الجزائية في العالم تجعل الأسلوب الوحشي في ارتكاب الجريمة ظرفاً مشدداً، يوجب الحكم بالإعدام. فهل اقتلاع العيون واستئصال الكلى والأكباد وقطع الأطراف واستخراج الأجنة من أرحام أمهاتهم إلا عمل وحشي، ومن أعمال الشراسة والتعذيب؟ وهل إلقاء طفلة على قارعة الطريق بعد انتزاع أعضائها ورميها مع 100 دولار غير ذلك ؟

ومن المفيد الإشارة في هذا المقام ونحن نبحث النصوص الواجبة التطبيق على هذه الجريمة، أن نصحح الخطأ الشائع والذي كثيراً ما يتداول في وسائل الإعلام، وهو اصطلاح سرقة الأعضاء البشرية؛ فهذا الاصطلاح غير دقيق إذ أن أحكام السرقة لا تنطبق إلا على فعل اختلاس المال المنقول العائد للغير دون رضاه. ومن البديهي أن الإنسان ليس محلاً للسرقة. فالإنسان لا يوصف بالمال ولا يقوّم، وبالتالي يخرج عن دائرة الأشياء التي يجوز التعامل بها. والقول أن أعضاء الإنسان بعد فصلها عنه تصلح أن تكون مالاً قابلاً للتقويم، فيه انتقاص من آدمية الإنسان.   كما أن وصف الإنسان بالشيئية نفيٌ للجوهر الخاص به، والمشرّع لم يطلق لفظ السرقة على الفعل الواقع على جثة الإنسان بعد وفاته في المادة 465. وقد اعتبرها من قبيل التعدي على حرمة الأموات، وبالتالي الاعتداء على حق الحياة أو سلامة الجسد ليس سرقة، والدليل على ذلك أن تلك المادة وردت في باب الجرائم التي تمس الدين والأسرة، وليس في باب الجرائم الواقعة على الأموال ولو كان يريد إلحاقها بجرائم السرقة لأوردها في ذلك الباب مما ينفي عنها وصف  السرقة. وهكذا يمكن القول أن جريمة الاتجار بالأعضاء البشرية هي من الجرائم الواقعة على الأشخاص الواردة في الباب الثامن من الكتاب الثاني من قانون العقوبات، ولا ينزع عنها هذه الصفة أن تكون من الجرائم المنظمة العابرة للدول؛

فالدولية صفة للفعل لا تغير من جوهره في شي. ويمكن للقاضي الاستعانة بأحكام قانون الإرهاب رقم/19/ لعام 2012 إذا كان الجناة يهدفون إلى خلق حالة من الذعر والخوف لدى المواطنين، ويشكلون لأجل ذلك عصابة تمس أمن الدولة والمواطنين، وبالتالي محاكمتهم أمام محكمة الإرهاب لأجل هذا الفعل، وذلك بدلالة المادة 326 ق ع  في ظل الاجتماع المعنوي للجرائم التي يرتكبها الجناة في هذه الجريمة، وخاصة أن المرسوم التشريعي رقم/3/ لعام 2010 لم يتطرق إلى جريمة الاتجار بالأعضاء البشرية، واقتصر على حماية الضحايا من العنف والاتجار بهم لغايات العبودية والاستغلال الجنسي. وهذا الأمر مسألة يستقل قاضي الموضوع في تقديرها بالنظر للطبيعة الخاصة لتلك الجريمة وحجمها وأبعادها وخطورة القائمين عليها وعدم التعامل معها على أنها حالة فردية، أو وقائع مجتزئة، وإنما باعتبارها ظاهرة مستحدثة من ظواهر الإجرام المعاصر، وذلك بغية أن يكون حكمه وسيلة رادعة وسلاح يتصدى به المجتمع لهذا الشكل من الإجرام، وذلك ريثما يتدخل المشرّع ويعالج تلك الحالات بقانون خاص كما فعل المشرّع الألماني الذي عالج أحكام الجريمة المنظمة بنصوص تناسب أبعادها وأساليبها وخطورة فاعليها, كوننا نعتقد أن النصوص الحالية غير قادرة على اللحاق أو مجاراة ذلك التيار المتصاعد من الإجرام الحديث لما يتصف به من الإقليمية والعالمية.

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.