تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

القيم الأخلاقية في القانون!!


إن موضوع القيم الأخلاقية في القانون هو أهم ما يشغل تفكير العالم الحقوقي الحديث لحل المشاكل التي تعترض تنفيذ الالتزامات بين الأفراد والجماعات, وهو موضوع لا يمكن بحثه إلا باستعراض المشكلة التي تعانيها المفاهيم الأخلاقية في إنشاء الحق وإظهاره. فقد أخذ الفقهاء والمشرّعون في هذا العصر الذي يلتهب فيه العالم بأتون الفتن والحروب, يدعون إلى بعث الأخلاق وإحيائها, لترد عادية الطغيان الذي سلط فيه الإنسان القوى المادية العاتية لتحطيم الحضارة البشرية. ومن الحقائق المؤلمة التي أقرها الفلاسفة الأخلاقيون للعصر الحاضر أن ارتقاء العلم قد مكّن للإنسان قوة عجيبة, جعلته يستخف بجميع القيم الأخلاقية التي حفظت معالم المدنية ونقلتها من جيل إلى جيل, وأن العلم إذا استمر في ارتقائه دون مراقبة الأخلاق فويل للحضارة الإنسانية من العلم. ونحن الذين نعيش في هذه الأيام وقد تتابعت فيها الويلات رأينا بأعيننا المصير المؤلم الذي حل بالقيم الأخلاقية, والنهاية المحزنة التي انتهت إليها شعوب وأمم كانت تعيش بأمن وسلام, ذلك أن انحلال الأخلاق حوّل العلم من أداة نافعة إلى أداة مدمرة لم تبق وزناً للعهود الدولية التي كان يصونها الشرف وتحميها الفضائل.

إن القلق الذي يسود المجتمع السوري من بعض الأفراد المتجردين من الأخلاق يدفعنا إلى البحث عن القيم الأخلاقية في قانوننا المدني باعتباره الشريعة العامة المأخوذ عن أحدث الشرائع العالمية الحديثة وقد بنى قواعده على احترام المبادئ الأخلاقية وأوجب مراعاة قيمها, وجعل إرادة المتعاقدين رهناً للتساوي بين كفتي العقد بحيث لا يرجح ميزانه لمصلحة أحدهما من دون الآخر. وتتميز مظاهر القيم الأخلاقية في سبب العقد, فقد أوجب الشارع أن يكون العقد مبنياً على سبب مشروع, فإن لم يكن سبب العقد مشروعاً كان العقد باطلاً, وإن لم يذكر له سبب فيفترض أنه قائم على سبب مشروع. وفي كل الأحوال فقد أجاز المشرّع الإثبات بالبينة على عدم مشروعية السبب أو أن السبب لا وجود له. فالسبب غير المشروع هو كل ما حرمه القانون وخالف النظام العام والآداب العامة, كمن يتعهد بدفع مبلغ من النقود لآخر ليرتكب جريمة.  

كذلك تتميز المظاهر الأخلاقية في الرضاء إذا شاب العقد إكراه أو تدليس أو غبن فاحش أو غلط جوهري جسيم. فقد حمى المشرّع المتعاقدين كي لا يبغي أحدهما على الآخر بقوته أو مكره ودهائه, فأبطل العقد إذا تم بطريق الإكراه المادي أو المعنوي، بحيث يؤثر في صحة الرضا كمن يوقع عقد بتأثير الضرب أو التهديد بالقتل. وهذا هو الإكراه المادي الذي يقع على الجسم فيحدث له ألماً مادياً فيتفادى المكره الألم بإظهار رضائه, أو كمن يوقع عقداً بتأثير ظروف نفسية اضطرته على التوقيع، وهذا هو الإكراه المعنوي. وكذلك أبطل المشرّع العقد إذا وقّع بتأثير التدليس، الذي يقع باستعمال الحيلة والخديعة لتضليل المتعاقد الآخر تضليلاً يحمله على التعاقد, كمن يظهر السعة واليسار ليؤثر بها في ذهن من يحمله على التعاقد معه بهذه الطرق، أو يكتم واقعة، ما كان للمتعاقد أن يبرم العقد لو علم بها، كمن يكتم عن المشتري أن العقار مرهون أو مستملك.

 وكذلك أجاز القانون إبطال العقد إذا وقع المتعاقد في الغلط الجسيم بحيث يمتنع عن إبرام العقد لو لم يقع في هذا الغلط. كما سوّغ للمتعاقد المغبون طلب إبطال العقد إذا ثبت أنه أبرم العقد بتأثير طيش وهوى جامح. وأوجب المشرع بطلان كل اتفاق خاص بمقامرة أو رهان وأجاز لمن خسر في مقامرة أو رهان أن يسترد ما دفعه خلال ثلاث سنوات من الوقت الذي أدى فيه ما خسره, ولو كان هناك اتفاق يقضي بغير ذلك، وله أن يثبت ما أداه بجميع طرق الإثبات.  

ولم يقصر المشرّع على تأييد القيم الأخلاقية بالبطلان, وإنما قرر كذلك مبدأ التعويض إذا تبين أن أحداً استعمل حقه استعمالاً مضراً بالغير أو ارتكب خطأ نال من حق أحد ما لا يستحقه. فأوجب القانون على الإنسان أن يحسن استعمال حقه وإلا كان مسؤولاً عما يحدث من ضرر, وأبان الأحوال التي يكون فيها استعمال الحق غير مشروع في المادة /5/ من القانون المدني. وقد أراد المشرّع أن ينظم العلاقات بين الأفراد في حياتهم الاجتماعية على أساس العدل والإنصاف. فالحق بعد أن أضحى وظيفة اجتماعية لا يحق لصاحبه أن يستعمله إلا في الحدود المعقولة بحيث لا يطغى في استعماله على حقوق الآخرين. وقد ضرب القانون بهذا المبدأ  الأخلاقي مثلاً في  المادة 776 حينما بحث عن العلاقات الجوارية فأوجب على المالك أن لا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار, وأن ليس لجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها وإنما يطلب إزالة الضرر إذا تجاوزت الحد المألوف على أن يراعى في ذلك العرف وطبيعة العقارات والغرض الذي خصصت له، ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق. ونرى تأثير القيم الأخلاقية في أن مبدأ سلطان الإرادة المطلق في العقد قد انهار وأصبح نفاذ العقود منوطاً بحسن النية وبمقتضيات العدالة وبظروف المتعاقدين وبكل ما يحقق المساواة بين الطرفين بحيث لا يتحكم أحدهما بالآخر أو يستفيد من ضعفه أو ظرفه؛ فلم يعد العقد شريعة المتعاقدين إلا بمقدار ما يحقق العدل والمساواة ويحافظ على مكارم الأخلاق.

ولكن من يتولى هذه المهمة؟

إنه القاضي الذي يتولى تلك المهمة ويتحمل هذه الأمانة الثقيلة, فهو لم يعد مكتشفاً للحق بل أصبح مبدعاً فيه, عليه أن يبحث عن الحق فيبدعه ويجلو صورته كما يبحث الفنان الملهم عن الجمال ويبدع صورته. والقاضي أجل من الفنان  شأناً لأن الفنان يبحث عن الجمال في المادة والقاضي يبحث عن الجمال في الحقيقة. وقد أوسع له المشرّع نطاق البحث والتحري ومنحه الكثير من سلطانه ليتمكن من انجاز مهمته العسيرة. فلم تعد يد القاضي مغلولة في النصوص أو بإرادة المتعاقدين, بل أصبح في وسعه أن يقلب النصوص ويغوص في معانيها ويمتحن إرادة المتعاقدين, وينفذ إلى أعماق نفوسهم ليتحرى الصدق والسلامة ويتحقق الخير والنفع. وجعل المشرّع له من قواعد الأخلاق الفاضلة مقياساً يستعين بها في قياس أعمال الناس وتصرفاتهم وفتح له آفاق واسعة يستند إليها في إظهار الحق, وبذلك أصبح القاضي رقيباً على جميع العقود التي تنظم علاقات الأفراد وإليه يعود تقدير المصالح والمنافع ويحسن بنا الإشارة في ذلك إلى المادة الأولى من القانون المدني والتي تنص:

 (1ـ تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو فحواها.2ـ فإذا لم يجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى الشريعة الإسلامية, فإذا لم توجد فبمقتضى العرف, وإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة).

وخير تطبيق لهذا الاتجاه ما ورد في المادة 148 من القانون المدني، والذي أعطى المشرّع للقاضي سلطة واسعة في إعطاء القيم الأخلاقية قوة القانون ومكّنه من أن يحكم بالقاعدة الأخلاقية فيبقي على العقد أو يعدله أو يهدمه. فهو لم يعد واسطة لتنفيذ إرادة المتعاقدين ومشيئاتهم, وإنما أصبح سلطة توجه للخير وتقيم ميزان العدل. ولم تعد القيم الأخلاقية بالنسبة للعقود مبادئ نصح وإرشاد, بل أصبحت قوة توجيه, يستطيع القاضي بثقافته أن يصب فيها مثله الأخلاقية ويحولها إلى قواعد ملزمة, وبذلك أزيل ذلك الحاجز الموهوم الذي حاول بعض المؤلفين رفعه بين القانون والأخلاق.     

من هنا يمكن أن نؤكد القاعدة التالية: كل قاعدة قانونية لا تكون صحيحة إذا لم يدعمها مفهوم أخلاقي يبرر إنشائها, وعلى القاضي أن يتحرى عن هذه المفاهيم. وإذا كان المشرّع هو من يتولى اختيار النصوص، فالقاضي هو من يتولى التطبيق. ولا شك أن مهمة القاضي أكبر وأخطر من مهمة المشرّع لأن على حكمه تتقرر مفاعيل القانون وآثاره, ويظهر أثره في المجتمع. فالقاعدة القانونية حينما يضعها المشرّع تكون قاعدة جامدة لا حياة فيها، غير أنها تكتسب حياة ونشاطاً حينما تصبح بين يدي القاضي، فهو الذي يهبها الحياة والقوة ويقرر مصير الحق الذي ينشأ عنها. وحياة القاعدة القانونية هي في المفهوم الأخلاقي والوجداني الذي يكسوها القاضي به, وفي تحري المنفعة الاجتماعية التي تهدف إليها. غير أن القاضي لا يمكن أن يقوم بهذه المهمة إذا لم يكن المفهوم الأخلاقي حياً في نفسه, متمكناً في قلبه وتفكيره، فعليه أن يجتلي الحقيقة من معين تراثنا العقلي والأخلاقي وأن يطبع القاعدة القانونية الحديثة بطابع الفكر العربي والأخلاق العربية.

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.