تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

حق المواطنة في دولة القانون في ظل الانسداد المجتمعي: (سورية نموذجاً)!!


إن ما تشهد المنطقة العربية في الوقت الراهن من صراعات وفتن واضطرابات داخلية تهدد مفهوم كينونة الدولة في وجودها ووحدتها الإقليمية, ومصدر خطر على التوجهات والتحولات الديمقراطية في تلك الدول, حيث بات من الضروري الإشارة إلى أسباب وعوامل هذا الخطر الذي حل بهذه الساحات، والذي يعبر عن نفسه بأشكال وتجليات يومية واسعة ومتداخلة وخطيرة كالقتل على أساس الهوية الطائفية أو المذهبية والتهجير وإعلان دويلات وإمارات هلامية افتراضية في الأحياء والقرى، وهي لا تعرف من الدولة إلا اسمها، وهو ما يسمى (بالانسداد المجتمعي) حسب علم الاجتماع السياسي. وأصبح السكوت عن هذه الأسباب والنزعات الانتحارية أو التستر عليها يشكل هروباً من المواجهة إن لم نقل تواطؤاً مع هذه الاتجاهات التفتيتية. والقاسم المشترك في أسباب هذه النزعات هو غياب روح المواطنة وضعف وعي المجتمع بهذه المسألة الأساسية والذي يحوّل الدولة المركزية أو الموحدة إلى مجرد ساحات لمجموعات قبلية وعشائرية وطائفية ومذهبية واثنية متنافرة سرعان ما تتصادم مع بعضها البعض في أول فرصة. وهذا ما حصل في سورية والعراق ولبنان ومصر وغيرها من البلدان التي تشهد ما يسمى " الربيع العربي".

        فمفهوم المواطنة وممارستها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة الدولة أو بالأحرى بدرجة تطور الدولة ومؤسساتها وآليات عملها ودرجة انفتاحها على مواطنيها وتواصلها معهم، وبالتالي فإن الحديث عن المواطنة لا يستقيم مع فكرة الدولة القائمة على أساس مذهبي أو طائفي أو عرقي أو قبلي. لذلك لابد من جهد معرفي متكامل يسعى إلى رد تلك المذهبيات والعصبيات المتنافرة إلى جذورها الحقيقية ونزع غشاوة القداسة المطلقة عن أبصار الذين يؤمنون بها، فصارت عندهم هوية وانتماء في زمن الهويات والانتماءات الكبرى وغدى التنازع المذهبي بمثابة تصادم المطلق بالمطلق والحق بالباطل.  

من هنا كان لابد من تحديد منهجي لمفهوم المواطنة في الاستخدام المعاصر بصرف النظر عن التطور التاريخي له، حيث تعرف دائرة المعارف البريطانية المواطنة بأنها: علاقة  بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق تلك الدولة وأن المواطنة تدل ضمناً على مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات. وتخلص إلى القول بأن المواطنة على وجه العموم تسبغ على المواطن حقوقاً سياسية مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة.

وثمة من يعرّفها أيضاً بأنها: مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين شخص طبيعي وبين مجتمع سياسي (الدولة) ومن خلال هذه العلاقة يقدّم الطرف الأول الولاء، ويتولى الطرف الثاني مهمة الحماية وتتحدد هذه العلاقة بين الشخص والدولة عن طريق القانون، كما يحكمها مبدأ المساواة.

فالمواطنة تجسيد لشعب يتكون من مواطنين يحترم كل فرد منهم الفرد الآخر ويتولى القانون السائد تعزيز هذا التعاون على قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو الطائفي أو الطبقي، من خلال المحافظة على كرامة الأفراد واستقلالهم وضمان عدم التعدي على حقوقهم السياسية والمدنية، ويمكّنهم من المشاركة الفعالة في عملية اتخاذ القرارات السياسية في المجتمعات التي ينتمون اليها.

وقد نص الدستور السوري في المادة الثالثة والثلاثون منه على أن:

1 ـ المواطنة مبدأ أساسي ينطوي على حقوق وواجبات يتمتع بها كل مواطن ويمارسها وفق القانون. 

2 ـ المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.

وهو قد أشار في المادة 19 منه إلى أن: المجتمع يقوم في الجمهورية العربية السورية على أساس التضامن والتكافل واحترام مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة وصيانة الكرامة الإنسانية لكل فرد. 

وبهذا المفهوم الدستوري والحقوقي يأخذ المواطن جذوره من الوطن في أوسع معانيه حيث يمنح المنتمي إليه الإقامة والحماية والتعليم والاستشفاء والحرية وحق الحكم والتوجيه واستعمال الفكر واليد واللسان. وتلك حقوق يتيحها ـ ولا نقول يمنحها الوطن ـ للمواطن ليتم الالتقاء بين المفهوم الأسمى للمواطن مع المفهوم الأسمى للإنسان، ولينتقل مفهوم المواطن إلى مفهوم أشمل وهو المواطنة فتصبح المواطنة إنسانية مضافاً إليها التعلق بشخص آخر يشاركه الوطن. ويرتبط عندها مفهوم المواطنة والوطنية التي تعني أن يكون المواطن مع وطنه في محنته، كما كان وطنه معه في سرائه. فالوطنية هي التي تنتصر كلما تعرض الوطن إلى محن الحروب والجوائح والأوباء والأزمات، وستظل الوطنية طوق النجاة كلما حاقت بالإنسان والأوطان الأزمات المدمرة.  لذلك فإن المواطنة لا تستقيم في مجتمع مختل التوازن حيث يفقد كل أفراد المجتمع مواطنيتهم فلا يسود الشعور بالانتماء إلى هذا الوطن ويصبح الوطن أوطان متفرقة متشرذمة  يحارب بعضها بعضاً. 

والحقيقة إن ممارسة مبدأ المواطنة على أرض الواقع يتطلب توفير حد أدنى من هذه الحقوق للمواطن حتى يكون للمواطنة معنى ويتحقق بموجبها انتماء المواطن وولائه لوطنه وتفاعله الإيجابي مع مواطنيه نتيجة القدرة على المشاركة الفعلية والشعور بالإنصاف وارتفاع الروح الوطنية لديه عند أداء واجباته في الدفاع عن الوطن ودفع الضرائب والمساهمة في صنع الحضارة الإنسانية.

فالمواطنة بشكل بسيط وبدون تعقيد هي انتماء الإنسان إلى بقعة أرض يستقرّ بها ويكون مشاركاً في الحكم بها ويخضع للقوانين المطبقة فيها بشكل متساوي مع باقي المواطنين في الحقوق والواجبات؛ فهي تمثل بنية شاملة تتألف من شبكة من العلاقات والعوامل التي من شأنها تنظيم علاقة الفرد بدولته بطريقة تعمل على توليد الإحساس بالأمان والانتماء وخلق حسّ الانتماء للوطن في أعماق نفس هذا الفرد.

الأمر الذي يعني أن المواطنة لا تعبّر عن حالة جغرافية بيئية اجتماعية سياسية فحسب، بل حالة نفسية أيضاً حيث يقف الفرد أمام الدولة كمواطن قبل كونه شيء آخر، وعضويته في الدولة لا في طائفته أو عشيرته هي الأساس القانوني الذي يحدد العلاقة المتبادلة بينه وبين الدولة. وهنا لا يمكن إنكار صور التضحية والتعبير عن الانتماء لهذا الوطن التي قدمها الكثير من أبنائه. بالمقابل، لا يمكن إغفال أن ثمّة من أساء إلى فكرة الوطن ومفهومه والانتماء إليه من خلال الدعوات المذهبية البغيضة حتى غدت فكرة الانتماء للوطن أو الدولة كفر محض، وأن الانتماء هو لشيء آخر نقيض مفهوم المواطنة والوطن؛ فالوطن ليس لفرد أو طائفة أو جماعة إنه للجميع وفوق الجميع.

لذلك فإن الدولة والأفراد كل من موقعه، معنيٌ اليوم ـ في هذه الفترة العصيبة من تاريخ سورية الحديث ـ بالعمل على تعزيز فكرة الانتماء للوطن وتكريس مفهوم المواطنة قولاً وفعلاً ابتداءً من التعليم ومؤسسات الدولة على اختلاف مستوياتها، وانتهاءً بالقضاء الحارس الأمين لهذا  المبدأ, وأن تكون الممارسة ذات محتوى سلوكي حقيقي وليست مجرد شعار أو نص دستوري يبقى حبيس الدفاتر والمكتبات نتباهى به في أبحاثنا الحقوقية ونتفاخر به، دون أن يكون له صورة نابضة وحيّة في قلوبنا وعقولنا التي شابها الريب واختلج فيها بعض من وساوس الشيطان.. وحتى تكون دماء أولئك الشهداء هي الماء الطهر للبراءة من شرك الإساءة لوطننا الحبيب سورية.

 


إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.