تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

التأصيل القانوني لمسؤولية رئيس التحرير في قانون الإعلام السوري


                                                                                                                                                                                              16/3/2014 

 

لطالما استوقفتني نص المادة /78/ من قانون الإعلام والتي تنص على مسؤولية رئيس التحرير والإعلامي معاً عن الأفعال التي تشكل جرائم معاقب عليها في القانون، فما هو القاسم المشترك الذي استوجب المسؤولية المشتركة، التي تبدو للوهلة الأولى خروجا عن القواعد الأساسية في المسؤولية، والتي هي التزام الشخص بتحمل النتائج التي رتبها القانون على أعماله غير المشروعة، أو ما يسمى بمبدأ "المسؤولية الشخصية".  وهنا تبرز المشكلة عند البحث في مسؤولية رئيس التحرير عن الأفعال المادية التي لم يرتكبها شخصياً، وهو ما يتنافى في ظاهره مع "مبدأ شخصية المسؤولية وشخصية العقوبة"، وهما من ركائز قانون العقوبات، لاسيما أن الإسناد أو الإحالة المنسوبة لرئيس التحرير هي إسناد قانوني بمعنى؛ أن  القانون هو من يحدد الشخص الذي يُعتبر فاعل الجريمة حتى لو لم يرتكب الأفعال المادية،  وهذا الإسناد صريح بنص القانون. فما هو الأساس القانوني لهذه المسؤولية؟؟ هل هو الخطأ أم القبول بالمخاطرة؟

بالعودة إلى القواعد العامة في قانون العقوبات الخاصة بالمساهمة الجزائية نجد أنها، بعد تعريف فاعل الجريمة في المادة/211/ منه بقولها: (فاعل الجريمة هو من أبرز إلى حيز الوجود العناصر التي تؤلف الجريمة أو ساهم مباشرة في تنفيذها) وبالنظر لأهمية الجرائم الإعلامية، فقد خصّها المشرّع في المادة/ 213/ من ذات القانون بالنص التالي:

 (الشريكان في  الجريمة المقترفة بالكلام المنقول بالوسائل الآلية على ما ورد في الفقرة الثانية من المادة 208 أو في الجريمة المقترفة بإحدى الوسائل المذكورة في الفقرة الثالثة من المادة نفسها هما صاحب الكلام أو الكتابة والناشر إلا أن يثبت الأول أن النشر تم دون رضاه).

 وفي المادة/214/ منه حدد المسؤولين في جرائم النشر بالقول أنه: (عندما تقترف الجريمة بواسطة الصحف، يعد ناشراً مدير النشر، فإذا لم يكن من مدير فالمحرر أو رئيس تحرير الصحيفة).

          من هنا  نجد أن المدخل لبحث الأساس القانوني يمكن الولوج إليه من  باب المساهمة الجنائية أو ما يسمى في قانون العقوبات العام بالاشتراك الجرمي.

فإذا كان أساس المسؤولية بشكل عام هو الخطأ،  وهي جوهر القانون ومحوره كما يقول أحد الفقهاء، فإن السؤال هنا: هل تقوم مسؤولية رئيس التحرير على أساس الخطأ الشخصي أم على أساس المسؤولية عن فعل الغير؟؟ فإذا كانت مسؤولية رئيس التحرير تقوم على الخطأ الشخصي، فهذا يعني البحث عن أوجه الخطأ، وأين تم الإخلال والتقصير من قبل رئيس التحرير، وبيان الصلة السببية بين الخطأ والنتيجة الضارة التي لحقت بالمضرور.

والحقيقة، هذه  هي أركان وجوهر فكرة الخطأ المحددة بالمادة /164/ من القانون المدني، أو على أساس المسؤولية عن فعل الغير المنصوص عليها بالمادة /174/ من ذات القانون، إذ  يُلقي القانون عليه ـ رئيس التحرير ـ واجب الإشراف والرقابة والتدقيق في عمل العاملين لديه. وبالتالي فإن التقصير في القيام بهذا الواجب هو الذي  يلقي عبء المسؤولية عليه. ولكن المشكلة تثور في ظل المادة/6/ من قانون الإعلام التي أوجبت احترام حرية الرأي، وألا تمارس الرقابة على العمل الإعلامي، فكيف يمكن التوفيق بين واجب الرقابة المشار إليه وقيام المسؤولية عن خطأ الغير  واتهامه بالتقصير؟ وكيف السبيل إلى إثبات هذا التقصير؟ وهل المسؤولية هنا تقوم على أساس نظرية التمثيل القانوني، أم على أساس نظرية الخضوع الإداري لتكاليف المهنة، وبالتالي عليه تحمل أعباء المهنة وتحمل مخاطرها؟ أو على أساس نظرية الالتزام القانوني المباشر حيث يفرض القانون على رئيس التحرير بصفته رب العمل تفادي المحظورات التي ينص عليها القانون،  وعدم مراعاة هذه القواعد تجعله مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن كل مخالفة لهذه النصوص سواء صدرت بفعله أو بفعل أحد التابعين له والعاملين معه.

  ويبدو أن القانون السوري من خلال قراءة أحكام المواد /213/ و/214/، قد أخذ بنظرية الالتزام القانوني المباشر عند الحديث عن مسؤولية رب العمل عن غير التابعين له، والتي استقرت عليها أحكام القضاء الفرنسي منذ عام 1907،  وإن كان البعض يرى أن ذلك غير واقعي ويتعارض مع حرية الصحافة، وهذا الوضع سوف يؤدي إلى أن يصبح رؤساء التحرير كرهائن، ويعاقبون على أفعال لم يرتكبوها ولم يستطيعوا توقعها أو منعها، الأمر الذي يؤدي بالنهاية إلى شلل العملية الإعلامية.

بيدَ أنّ الاتجاه الغالب في الفقه يذهب في الدفاع عن هذه النظرية والقول إن مسؤولية  رئيس التحرير عن  فعل الغير إنما هي ظاهرية فقط. وفي الحقيقة فإن المشرّع عندما عاقبه، إنما يعاقبه على أساس الخطأ الشخصي المتمثل في الإخلال بواجب الحيطة والحذر وإهمال الإشراف المفروض عليه مباشرة لضمان تنفيذ تعليمات القانون ونواهيه. وهو ما يُعرف بالفقه والقانون بـ"الخطأ غير المقصود" أو "الإهمال غير العمدي".  وبمعنى آخر؛ إن رئيس التحرير لا يعفى من المسؤولية إلا إذا أثبت أن الإعلامي قد خالف تعليماته الواضحة والصريحة، وقام بالنشر دون رضاه وخفية عنه. لذلك فمسؤولية رئيس التحرير إما أن تقوم بناءً على فعل ايجابي منه، أو بالامتناع عن القيام بالواجب المفروض عليه وهو ما يسمى "الخطأ عن طريق الامتناع". ولقد لخص الفقيه الفرنسي الكبير جوسران هذه الحالة بالقول: (يجب أن يعاقب الرئيس إذ ترك بإهماله غيره من الخاضعين لأوامره فِعلَ ما يحظره القانون، أو أن يمتنع عن ما يأمر به، فهو في الظاهر يبدو أنه يُسأل عن فعل غيره، ولكن في الحقيقة لا يعاقب إلا بسبب خطئه الشخصي بسبب عدم إشرافه لضمان تنفيذ التزامه الشخصي).

وإن كان البعض يرى أن معاقبة رئيس التحرير بسبب فعله الشخصي فيه خروج على مبدأ وحدة الجريمة، فكيف يكون كلا الشخصين مسؤولاً عن ذات الفعل، وينسب إليهما ذات الخطأ، في الوقت الذي يختلف فيه القصد الجرمي لدى كل منهما؛ فالإعلامي أو المحرر أراد الفعل، وهو يقصده، وهذا ما يسمى بـ"الخطأ المقصود"،  بينما رئيس التحرير لم يقصد الفعل. فكيف السبيل إلى التوفيق في ذلك وعدم الخروج على قاعدة المساواة في العقوبة والعقاب عند تساوي المراكز القانونية في ظل اختلاف القصد الجرمي لدى الفاعلين،  وحتى لا يهدر القانون كل المكتسبات التي حققتها فكرة المسؤولية الجزائية القائمة على حرية الاختيار والعودة إلى العهود السحيقة التي كانت فيها المسؤولية تقوم على الفعل بصرف النظر عن قصد الفاعل أو إرادته؟. 

          وأمام هذا التحدي الخطير، ظهر في الفقه من يدحض هذا الرأي بالقول؛ إنه عند افتراض وحدة المسؤولية في الجريمة الإعلامية بين المحرر ورئيس التحرير، وتجاهل القصد الجرمي أو النية لدى الفاعل، فإن ذلك يستند إلى نظرية الأمن الاجتماعي، حيث من الملائم افتراض الخطأ بحق رئيس التحرير عند قيام مسؤولية الإعلامي والمساواة بينهما بالنظر إلى الخطورة الإجرامية الناشة عن الفعل، والتي من شأنها أن تهدد السلم والأمن في المجتمع.

فكان الحري برئيس التحرير توقع هذه الخطورة وتفاديها، ولكن القبول بالمخاطرة هو ما يجعله شريكاً في العقوبة مع الفاعل الأصلي، إذ ينبغي عليه العناية والاهتمام وإصدار الأوامر التي من شأنها الحيلولة دون وقوع الجرم، وأن يعطيه من الخبرة ما يحول بينه وبين الوقوع في الخطأ. وهذه "الخبرة" نص عليها قانون الإعلام عند تحديده الشروط المطلوب توفرها برئيس التحرير. وبالتالي فإن هذه المسؤولية الملقاة على عاتق رئيس التحرير تقوم على افتراض الإشراف على الوسيلة الإعلامية ومتابعة عمل العاملين فيها. ومسألة الافتراض هنا ليس في وقوع  الخطأ بالمعنى الدقيق، وإنما في عبء الإثبات؛ أي على من يقع  عبء إثبات قيام الخطأ أو نفيه.  فالمشرّع عمد إلى افتراض قرينة المسؤولية على رئيس التحرير حتى يُثبِت انتفاء الرضا بغية تفادي صعوبة الإثبات التي قد تواجه النيابة العامة أو المضرور في قيام الرضا أو القبول بما نشر أو حرر، وحتى لا يكون الإفلات من العقاب سهلاً في هذا الباب من أبواب المسؤولية خاصة إذا كانت المادة المنشورة ذات خطورة معينة. 

ولكن مع التسليم بوجاهة هذا الرأي وأهميته، فإن النتيجة قد تبدو مفزعة في التطبيق العملي. لذلك كان أفضل الحلول المقترحة لتحديد الأساس القانوني لمسؤولية رئيس التحرير عند انتفاء الخطأ القصدي أن يُسأل على أساس "نظرية القبول بالمخاطرة" كنوع من أنواع الخطأ غير العمدي القائم على قبول المخاطرة وواجب توقعها والقبول بها.

ومما لاشك فيه أن روح التشريع الذي ينظم أحكام المسؤولية التقصيرية التي سادت في القرن الماضي كانت  بشكل عام تتجه دائماً وأبداً إلى حماية المضرور باعتباره الطرف الأضعف في هذه المنازلة القضائية. لذلك ظهر الاتجاه التشريعي القائم على تخفيف عبء الإثبات عليه بشتى الوسائل والسبل، تارة بافتراض الخطأ في جانب المسؤول، وتارة بافتراض المسؤولية؛ فكان  الهدف دائماً تيسير سبل الحصول على التعويض من قبل المضرور. وسلوك المشرع هذا، تمليه الضرورات الاجتماعية والتطور السريع في ميادين الحياة، وبالتالي فإن وقوف المشرع إلى جانب المضرور هو من قبيل رفض استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وهي مهمة القانون وغايته. لذلك كان من واجب القانون أن يُدرك هذه الحقيقة ويعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، وهو ما دفعه إلى الخروج على بعض القواعد الأساسية، ومنها مسؤولية رئيس التحرير.

                                                                             القانونية: أمل عبد الهادي مسعود

  

 

       

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.