تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

هل يخرج الجنوب العالمي من الهيمنة الأميركية لفائدة روسيا والصين

مصدر الصورة
العرب

منذ بداية الحرب في أوكرانيا، أعاد خبراء السياسة الخارجية الأميركيون والغربيون إحياء المصطلحات السياسية التي تشير إلى أن الجهود الغربية لحماية النظام الدولي الليبرالي تواجه تحديا من قبل الدول القومية التي تنتمي إلى ما يسمى “الجنوب العالمي”، الذي يضم في الغالب دولا في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وهي الدول التي اختارت عدم الالتزام بخط واشنطن بشأن السياسة ضد روسيا، أو المواجهة مع الصين.

القاهرة – سلّطت حرب أوكرانيا الضوء على الغضب الدولي المتراكم والاستياء تجاه الدول الأوروبية والولايات المتحدة، سواء لقرون من الاستعمار والممارسات الاستعمارية الجديدة، أو للمعايير المزدوجة التي أظهرتها الدول الغربية في كثير من الأحيان تجاه انتهاكات الحقوق وسيادة القانون في أجزاء مختلفة من العالم؛ ما دفع الغرب إلى مراجعة سياساته تجاه الجنوب العالمي.

وبالرغم من أن الحديث عن تنامي دور دول الجنوب في السياسة العالمية ارتبط بشكل وثيق بالحرب في أوكرانيا، فإن الواقع يكشف عن تزايد نفوذ هذه الدول بشكل ملحوظ منذ الأزمة المالية العالمية 2008 ـ 2009 التي أدت إلى إلحاق الضرر باقتصاديات بلدان الشمال المتقدمة، وأفقدت إجماع واشنطن القائم على نظام اقتصادي دولي ليبرالي مصداقيته.

وفي المقابل، أضحت دول الجنوب تضطلع بدور حاسم في النظام الاقتصادي العالمي، وهو الأمر الذي يتطلب دراسة متعمقة للتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية والتجارية التي ساهمت في زيادة دور ونفوذ الجنوب العالمي في الشؤون الدولية.

صدفة محمد محمود: مستقبل الجنوب مرهون بموقعه في النظام الدولي المتغير

وانطلاقا من هذه الرؤية، تأتي دراسة الباحثة د. صدفة محمد محمود “صعود تأثير الجنوب العالمي في التفاعلات الدولية” الصادرة عن مركز إنترريجونال للتحليلات الإستراتيجية بأبوظبي، لتتناول المنظورات والاتجاهات المختلفة لدراسة الجنوب العالمي؛ بما يشمل منظور الاقتصاد السياسي، والمنظور الجغرافي، والمنظور الاقتصادي – التنموي، المنظور الجيوسياسي، مع تحليل مؤشرات تنامي نفوذ بلدان الجنوب في السياسة العالمية، من قبيل؛ تحول القوة الاقتصادية العالمية لصالح دول الجنوب، والتأثير المتنامي للجنوب على الجغرافيا السياسية العالمية، وزيادة قدرة القوى الصاعدة على تحدي الهيمنة الأميركية، فضلا عن تصاعد التحريات الدبلوماسية للقوى الكبرى لكسب دعم دول الجنوب.

كما تحلل الدراسة عوامل صعود دور دول الجنوب في الشؤون الدولية، من خلال مناقشة التحول الحادث في بنية النظام الدولي، واشتداد حدة التنافس الدولي، مع بروز أهمية خاصة للجنوب فيما يتعلق بالنمو الاقتصادي العالمي، ومساهمة الجنوب المحورية في معالجة القضايا الدولية الحيوية، مع تزايد الثقل السياسي والعسكري لدول الجنوب في الإستراتيجيات الدولية.

ووفقا لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد”، فإن الجنوب العالمي حزام شاسع يمتد من أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأفريقيا إلى آسيا (بدون إسرائيل واليابان وجمهورية كوريا)، وأوقيانوسيا (بدون أستراليا ونيوزيلندا)، ودول جزر المحيط الهادئ.

وتؤكد الباحثة أن الحكومات والسكان في معظم أنحاء الجنوب العالمي قابلت خطاب العالم الحر الذي رفعه الغرب، بسلسلة من الاعتراضات الشديدة على نحو متزايد حول المعايير الغربية المزدوجة، وحول عقود من إهمال القضايا الأكثر أهمية بالنسبة إليهم، والتكاليف المتزايدة للحرب والتوترات الجيوسياسية المتزايدة.

ويعتبر نشاط القوى المتوسطة سمة مميزة للنظام الدولي الذي يجري تشكيله، فتحدي السعودية لجهود إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لخفض أسعار النفط، ومقاومة تركيا لمحاولة السويد الانضام إلى عضوية الناتو، ورفض إندونيسيا منع دخول روسيا في قمة مجموعة العشرين في بالي، مؤشرات تعكس الاتجاه نفسه.

وكانت الهند أقرب حلفاء الولايات المتحدة إحدى الدول التي رفضت نظام العقوبات التي قادتها واشنطن ضد موسكو، بل على العكس زادت بشكل كبير من مشترياتها من النفط الروسي إلى 23 في المئة من صافي وارداتها النفطية (مقارنة ب 0.2 في المئة قبل حرب أوكرانيا). وكانت مواقف دول الجنوب تعبيرا واضحا عن رفضها الانخراط في حرب باردة جديدة وتصميمها على رسم مسار مستقل لتحركاتها الخارجية.

صراع من أجل النفوذ

وتشير إلى أنه فيما يتعلق بالتنافس الأميركي الصيني، فعلى الرغم من مخاوف دول جنوب شرق آسيا من الصعود الاقتصادي والعسكري الصيني، لم تنضم أي منها إلى المجموعة الرباعية الأمنية Quad بين الهند وأستراليا واليابان والولايات المتحدة، كما انتقدت إندونيسيا وماليزيا العضوان الرئيسيان في آسيان تحالف AUKUS أستراليا، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة. وفي حديثها في الأمم المتحدة نيابة عن الأسيان في عام 2022، قالت وزيرة الخارجية الإندونيسية ريتنو مارسودي “نرفض أن نكون بيدقا في حرب باردة جديدة”. وفي السباق على الجيل الخامس من تكنولوجيات الاتصالات المتنقلة G5، خلاف عدد من القوى المتوسطة المهمة في الجنوب العالمي تفضيلات الولايات المتحدة، واعتمدت منصات صينية. وتشمل هذه القوى البرازيل وإندونيسيا والمملكة العربية السعودية وجنوب أفريقيا وتركيا.

وقالت الباحثة إنه من الواضح أن قادة الجنوب العالمي أصبحوا صريحين بشكل أكبر بشأن التعبير عن رؤاهم والدفاع عن مصالحهم واستقلالهم السياسي. وعندما انتقدت الولايات المتحدة إجراء جنوب أفريقيا تدريبات مع روسيا في يناير 2023، قالت وزيرة الخارجية الجنوب أفريقية ناليدي باندور، إن الانتقادات الموجهة لبلادها تكشف عن ازدواجية المعايير؛ حيث تقول الدول القوية “ما أفعله مقبول بالنسبة إليّ، لكن لا يمكنك القيام به لأنك دولة نامية”، وأضافت “جميع الدول تجري تدريبات عسكرية مع الأصدقاء في جميع أنحاء العالم. وخلال مؤتمر صحفي مشترك مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في أغسطس 2022 في بريتوريا، قالت ناليدي باندور إنه “في تفاعلنا مع بعض شركائنا في أوروبا وأماكن أخرى، كان هناك شعور بالتنمر المتعالي تجاهنا”، كما انتقدت إقرار الكونجرس الأميركي مشروع قانون “مكافحة الأنشطة الروسية الخبيثة في أفريقيا” الذي يدعو إلى الضغط على الدول الأفريقية والقادة الذين يتعاملون مع روسيا، ومراقبتهم ومعاقبتهم، واصفة إياه بأنه “تشريع مسيء” لا “يحترم حرية أفريقيا”.

ورأت أن وجود توافق في مواقف ورؤى أعضاء تكتلات الجنوب العالمي، يعد محددا رئيسا لمدى تماسكها وفاعلية دورها. وفي إطار عملية توسيع عضوية تجمع بريكس، مثلا، قال رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا “إن تعزيز نفوذ بريكس سيحقق رغبة مشتركة في أن يكون هناك نظام عالمي أكثر توازنا”، بينما تعتبر بكين نفسها الزعيم المفترض للمجموعة، وترغب في رؤية عضوية موسعة تحولها إلى ناد صديق للصين باستثناء الهند؛ وذلك في الوقت الذي تخوض فيه حربا تجارية وتوترات دبلوماسية متصاعدة مع الولايات المتحدة. وبالمثل، أيدت روسيا عملية توسيع العضوية، حيث تتوق بشدة إلى حلفاء في الوقت الذي يعارض فيه الغرب حرب موسكو في أوكرانيا.

وأضافت الباحثة أن تداعيات حرب أوكرانيا ساهمت في توسيع الفجوة بين الشمال والجنوب العالميين، وكشفت عن أولوياتهما المختلفة. وبينما تقدم الدول الغربية مستويات عالية بشكل استثنائي من التمويل لأوكرانيا، دقت الجهات الفاعلة من القطاعين الإنساني والإنمائي الدوليين ناقوس الخطر بشأن تداعيات تحويل الأموال بعيدا عن بلدان أخرى في جميع أنحاء العالم، مثل إثيوبيا واليمن.

وقال تقرير الأمم المتحدة لتمويل التنمية المستدامة لعام 2022، “يجب ألا يأتي الدعم الإضافي لأوكرانيا واللاجئين على حساب تدفقات المساعدة الإنمائية الرسمية عبر الحدود إلى البلدان الأخرى المحتاجة”. وفي حين يشعر القادة الغربيون بالقلق إزاء تعطيل روسيا النظام الديمقراطي الليبرالي وصعود الصين، يركز جزء كبير من الجنوب العالمي على التحديات الاقتصادية والتنموية، مثل تخفيف عبء الديون، والأمن الغذائي، والحد من آثار تغير المناخ. ويشير تقرير صادر عن مركز ستيمسون إلى حقيقة صارخة: أزمات الغذاء أو الطاقة أو التمويل تهدد ما لا يقل عن 107 دول نامية، تضم 1.7 ِ مليار شخص. ومع ذلك، فشل النظام العالمي والمؤسسات المتعددة الأطراف التي تتمحور حول الغرب في التخفيف من حدة هذه التحديات.

وجود توافق في مواقف ورؤى أعضاء تكتلات الجنوب العالمي، يعد محددا رئيسا لمدى تماسكها وفاعلية دورها

وأوضحت المشكلات الجوهرية التي تواجه العديد من دول الجنوب، لا تقتصر على الدول الفقيرة والأقل تقدما بل تمتد إلى القوى المتوسطة، حتى الصين تتعامل أيضا مع مجموعة من المشاكل التي تثير تساؤلات حول إذا ما كانت القوة العظمى الوليدة تقترب من ذروتها على المدى القريب. ثم هناك البرازيل، التي يخضع اقتصادها بشدة لازدهار وكساد دورات السلع الأساسية، وحيث يمثل الموالون للرئيس السابق جايير بولسونارو قوة مزعزعة للاستقرار. وبعد ربع قرن من الفصل العنصري، لا تزال جنوب أفريقيا تعاني من حالة اضطراب عميق؛ بسبب الفساد المستشري والمحسوبية وانتشار العصابات الإجرامية وجرائم كراهية للأجانب والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي الحاد.

ويمكن أن يكون للمشكلات التي تواجه دول الجنوب تداعيات متباينة؛ فمن ناحية، قد تميل بعض الحكومات إلى عدم إعطاء الأولوية للمبادرات المتعددة الأطراف عندما تتراكم المشاكل في الداخل؛ ما قد يضعف فاعليتها على المدى الطويل. ومن ناحية أخرى تمثل الصعوبات التي تواجه الجنوب العالمي حافزا إضافيا على تشديد موقفها المطالب للغرب بضرورة تصحيح الاختلالات مع الشمال، وتحمل مسؤولياته عن الأزمات التي تواجه بلدان الجنوب، بما في ذلك تغير المناخ. ومن المرجح أن تدافع هذه البلدان بقوة عن إصلاح مؤسسات التمويل الدولي وزيادة التجارة بالعملات المحلية.

وأكدت الباحثة إن تأطير العديد من المعلقين والسياسيين الغربيين لموقف الجنوب العالمي من حرب أوكرانيا على أنه صراع بين الديمقراطيين والاستبداديين، أو بين اليسار واليمين، أو بين الغرب والبقية، يقدم قراءة خاطئة لمواقف وحسابات البلدان عبر الجنوب العالمي. وتسعى معظم هذه الدول إلى إقامة علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، ولكن بسبب الأحادية الأميركية، فإنها ترغب في خيارات لإيجاد ثقل موازن ضد القوة الأميركية عند الحاجة. وفي المقابل، لا يمكن للولايات المتحدة أن تنجح في عالم تكون فيه القوة أكثر انتشارا دون علاقات قوية مع الجنوب العالمي الذي يزداد حزما وعدم انحياز.

وخلصت إلى أن مستقبل الجنوب العالمي مرهون بموقعه في النظام الدولي المتغير. وقالت “سوف يستمر الجنوب العالمي حقيقة جيوسياسية ما دام مستبعدا من النواة الداخلية لهياكل السلطة الدولية. إن الحفاظ على الوضع الراهن للنظام الدولي القائم ومقاومة محاولات إضفـاء الطابـع الديمقراطـي علـى حكمـه، سـيدفع الجنـوب العالمـي إلـى ممارسـة مزيـد مـن الضغـوط علـى القـوى الكبـرى، خاصة الولايات المتحدة، وسيعمل على تحدي شرعية بعض سياساتها؛ ما سيحد من نطاق عملها في الساحات الرئيسية. وإذا استمرت واشنطن في سياساتها الحالية القائمة على فرض العقوبات والنظر إلى الجنوب العالمي من خال عدسة “المنافسة الاستراتيجية” في المقام الأول، فإنها تخاطر بمزيد من التراجع في نفوذها، في مقابل ميل الجنوب العالمي بدرجة أكبر تجاه الصين وروسيا”.

محمد الحمامصي

مصدر الخبر
العرب

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.