تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

د. وائل عواد يكتب عن ميانمار ويعرفنا على ما حصل فيها ...ميانمار بين حكم العسكر والعصيان المدنيّ – العراق الجديد

مصدر الصورة
وكالات -أرشيف

يتواصل التّنديد العالميّ بعودة العسكر للحكم في ميانمار في خطوةٍ "انقلابيّةٍ" أعادت الجيش لإدارة شؤون البلاد بالرّغم من أنّ الجيش كان وما زال مسيطراً على زمام السّلطة في ميانمار لأكثر من نصف قرنٍ، ولكنّه عرقل بهذه الخطوة مرحلة الانتقال إلى  الدّيمقراطيّة الحديثة  المشروطة، والتي بدأها مع صكّ دستورٍ للبلاد عام 2008  سمح بموجبه بالحفاظ للجيش على 25% من نسبة المقاعد في البرلمان , ممّا يمنع القيام بتعديلاتٍ دستوريّةً من قبل الأحزاب السّياسيّة التي قد تقلّص من نفوذ الجيش. جاءت ردود الأفعال قاسيةً بعض الشّيء من الدّول الأوروبيّة والولايات المتّحدة، لكنّها كانت أكثر حذراً وحيطةً من قبل الصّين وروسيا ودول النّمور الآسيوية (آسيان) التي اعتبرت ما يحدث في ميانمار( بورما سابقاً ) شأناً داخليّاً، وطالبت جميع الأطراف بحلّ الخلافات بالطّرق السّلميّة، على عكس ما حصل مع العراق في زمن الرّئيس صدّام حسين من قبل جيرانه الذين فتحوا أجواءهم وأراضيهم للقوّات الغازية لإسقاط النّظام وتدمير كيان الدّولة العراقيّة وقتل شعبها، ومازال الشّعب العراقيّ يدفع الثّمن باهظاً. ولم يسهم الجيران بحلّ مشكلة العراق، بل زادوا من إذلال شعبه ورئيسه صدّام حسين الذي كان متمرّداً سيّما بعد تشجيعه ودعمه العسكريّ والماديّ واللوجستيّ لشنّ حربٍ ضدّ جارته إيران عقب انتصار الثّورة الإسلاميّة فيها. ورغم الثّمن الباهظ الذي دفعه العراق بسبب طيش رئيسه صدّام بغزو الكويت وتدمير الجيش العراقيّ وقتل أفراده بدمٍ باردٍ من قبل الولايات المتّحدة، إلّا أنّ الثّمن الأكبر كان هو الاحتلال الأمريكيّ - البريطانيّ للعراق.

وقد يبدو الحلم الأمريكيّ بإشعال فتيل أزمةٍ في ميانمار بعيد المنال في ظلّ تمسّك حلفاء ميانمار بالخطوة التي اتّخذها الجيش، خاصّةً الصّين، وكذلك دول الجوار. ولن تجدي سياسة العقوبات الاقتصاديّة نفعاً على ميانمار على الرّغم من تعليق بعض المشاريع الاقتصاديّة الضّخمة هناك، إلّا أنّ الصّين وروسيا ماضيتان في مشاريعهما وتعزيز علاقاتهما مع ناي بي تاو (يانغون سابقاً).

الأسباب والدّوافع وراء الانقلاب

لم تكن العلاقات حميمةً بين زعيمة الرّابطة الوطنيّة للدّيمقراطية السّيّدة أونغ سان سوكي، الحائزة على جائزة نوبل للسّلام والبالغة من العمر 75 عاماً، وقائد الجيش مينغ أونغ هلاينغ ، البالغ من العمر 64 عاماً، والذي كان من المفترض أن يتقاعد الصّيف القادم بعد ثلاث سنواتٍ من التّمديد.

وتجنّبت السّيّدة أونغ سانغ سوكي المواجهة مع الجيش، ولم تمانع حتّى انتهاكات حقوق الإنسان وحرب الإبادة التي مارسها الجيش ضدّ مسلمي الروهينغا والذي أفقدها الكثير من الدعم الدولي باعتبار أنّها كانت تمهد للفوز بالانتخابات البرلمانية ومن ثم تعديل مواد الدّستور والتي ستقلّص من صلاحيات الجيش، وهذا ما أثار حفيظة العسكر. وفاز حزبها بالانتخابات التي أجريت في شهر تشرين الثاني / نوفمبر من العام الماضي على حساب أنصار الجيش بأغلبيّة 84% من المقاعد، أي 396 مقعداً من أصل 476، ورفض الجيش هذه الانتخابات، وقال إنّه تمّ تزويرها كي تفوز الرّابطة بالأغلبيّة، وادّعى أنّ هناك أكثر من 8.6 مليون مخالفةٍ ، لكنّ  مفوّضيّة الانتخابات رفضت ادّعاءات الجيش ممّا دفعه إلى استخدام المواد 217-248 من الدّستور والمادّة 47 لإعلان حالة الطّوارئ لمدّة عامٍ  وإلغاء الانتخابات ووضع زعيمة الرّابطة الوطنيّة من أجل الدّيمقراطيّة قيد الاعتقال وكذلك الرّئيس وين مينت. وثمّة تقارير استخباراتيّةٌ تؤكّد أنّ موسكو قدّمت معلوماتٍ دقيقةً لقائد الجيش عن محاولة الرّابطة إشعال ثورةٍ برتقاليّةٍ في البلاد وزعزعة الأمن والاستقرار بدعمٍ من الدّول الغربيّة والولايات المتّحدة، ممّا حدا بقائد الجيش الطّموح للبقاء في السّلطة نحو هذا الانقلاب وإعادة هيبة الجيش.

 

لماذا ميانمار ؟

تحتلّ ميانمار موقعاً استراتيجيّاً هامّاً بالنّسبة للصّين والهند، ولديها حدودٌ بريّةٌ تمتدّ قرابة 1624 كم مع شمال شرق الهند، وبحريّةٌ بطول 725 كم في خليج البنغال، وقد تأسّست عام 1057 من قبل الملك أنوراهتا الذي أسّس بورما المتّحدة وتبنّى الدّيانة البوذيّة، وكانت محطّ أطماع جيرانها  المغول واليابان والاستعمار البرتغاليّ ومن ثمّ بريطانيا التي خاضت الحرب الأنغلو- بورميّة عام 1824-1826، واستطاعت السّيطرة على شريط أراكان الّساحلي (معاهدة ياندابو)، وضمّتها إلى بريطانيا المستعمرة  للهند وقتها , وواصلت اعتداءاتها، واحتلّت عام 1852 الجزء السفليّ في الحرب الأنغلو- بورميّة الثّانية، وبعدها احتلتها نهائيّاً مابين عامي 1850-1886، وضمّت إقليم بورما إلى بريطانيا الهند وفصلته عن الهند عام 1937. وفي عام 1942 احتلّت اليابان بورما، وعادت بريطانيا وحرّرتها عام 1945 بمساعدة أونغ سان (والد أونغ سان سوكي) وستّةٍ آخرين تمّ اغتيالهم فيما بعد من قبل خصومهم السّياسيّين، ومن بينهم يو سوعام 1947 الذي تسلّم رئاسة الوزراء بعد أن نالت بورما استقلالها عن الاستعمار البريطانيّ عام 1948، ومنذ حينه والجيش يحكم البلاد بانقلاباتٍ عسكريّةٍ ضدّ الخصوم حتّى عام 1962، حيث تمّت الإطاحة بفصيل يو نو بانقلابٍ عسكريٍّ بقيادة الجنرال ني وين الذي ألغى النّظام الفيدرالي وأسّس "الطّريقة البورميّة للاشتراكيّة". وفي عام 1974 دخل دستورٌ جديدٌ حيّز التّنفيذ، ونُقلت السّلطة من العسكر إلى مجلس الشّعب، وعمّت البلادَ حركات التّمرّد والاضطرابات السّياسيّة وأعمال الشّغب والعنف عام 1987، بعد تخفيض قيمة العملة المحليّة، وتمّ قتل المئات خلال الاضطرابات إلى أن تشكّل مجلس الدّولة لاستعادة الأمن والنّظام،  وتمّ تسمية بورما ميانمار وتغيّر اسم العاصمة رانجون إلى يانغون. وبناءً على ماسبق فإنّ الخلافات بين الجيش والحركة الدّيمقراطيّة تعود إلى عام 1988 عندما فاز حزب الزّعيمة أونغ سان سوكي بالانتخابات في شهري آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر  من عام 1988، ممّا أدّى إلى موجةٍ من الاحتجاجات والمظاهرات العارمة  والإضرابات المطالِبة بإنهاء حكم العسكر ممّا سبّب شللاً في الحياة العامّة. وقام الجيش بقمع هذه الاحتجاجات بقسوةٍ واعتقال قادة الحراك الشّعبيّ، ومن بينهم الزّعيمة أونغ سان سوكي، وتمّ وضعها قيد الإقامة الجبريّة عام 1989 لخمسة عشر عاماً، وشّكلَ قائد الجيش آنذاك - الجنرال ساو موانغ - مجلسَ الدّولة لاستعادة القانون، وسمح النّظام  بإجراء انتخابات عام 1990 واثقاً من الفوز بها، إلّا أنّ الرّابطة فازت بهذه الانتخابات، ورفضَ الجيش التّراجع.

وفي عام 1992 مُنحت السّيدة أونغ سان سوكي جائزة نوبل للسّلام لالتزامها بالتّغيير السّلميّ، وتمّ إطلاق سراح العديد من السّجناء السّياسيّين في العام ذاته بمحاولةٍ لتحسين صورة ميانمار عالميّاً، وتمّ ضمّ ميانمار إلى رابطة دول جنوب شرق آسيا التي تعرف بالآسيان عام 1997، وأُطلق سراح المعتقلين السّياسيّين، ودعم الرّئيس الصّينيّ  - جيانغ زيمين - الإصلاحاتِ الاقتصاديّةَ في ميانمار. وبدأت العقوبات الاقتصاديّة  على البلاد والاتّهامات بانتهاكات حقوق الشّعب والقمع المتعسّف للمظاهرات المناوئة للحكومة العسكريّة، خاصّةً بعد رفع أسعار الوقود، ووقعت سلسلةٌ من التّفجيرات والأعمال التخريبيّة إلى أن وضع الجيش الدّستور الجديد للبلاد عام 2008، والذي يخصّص ربع المقاعد للجيش في البرلمان، ويحظّر على زعيمة الرّابطة الوطنية من أجل الدّيمقراطيّة - السّيّدة أونغ سان سوكي - تولّي منصبها.

وبدأت مرحلة التّنقيب عن النّفط والغاز ودخول الشركات الأجنبيّة للاستثمار والتّنافس على الكعكة البورميّة  ومرحلة الدّيمقراطيّة المشروطة في البلاد، وبدأت الدّول الغربيّة برفع العقوبات غير العسكريّة عن ميانمار ودعم المشاريع التّنمويّة من قبل مفوضيّة الاتّحاد الأوربيّ،  وأجريت الانتخابات التي أدّت إلى فوز الرّابطة الوطنيّة من أجل الدّيمقراطيّة. وبدأت النّعرات الدّينيّة بين الأقليّة المسلمة  الروهينغا وراخين البوذيّة، ممّا أدّى إلى سقوط ضحايا بين الطّرفين . وبدأت التّصفية العرقيّة ضدّ الأقليّة المسلمة عام 2012، ممّا أدّى إلى هروب الكثيرين منهم إلى بنغلاديش وتايلندا، وتفاقمت الأوضاع مع تدخّل الجيش الذي اتّهم بانتهاكاتٍ وحرب إبادةٍ ضدّ الأقليّة المسلمة ممّا تسبّب بمقتل المئات وهروب أكثر من مليونٍ من مسلمي روهينغا. وفي عام 2017، قرّر مجلس حقوق الإنسان التّابع للأمم المتّحدة  فتح تحقيقٍ بالجرائم ضدّ المسلمين الروهينغا، وأكّد تقرير الأمم المتّحدة عام 2018 قيام الجيش بحرب إبادةٍ جماعيّةٍ، واتّهم القادة العسكريّين بجرائم حربٍ وجرائم ضدّ الإنسانيّة، وطالب بإحالة ستّةٍ من الجنرالات إلى محكمة الجنايات الدّوليّة، الأمر الذي رفضته الحكومة، وحتّى الزّعيمة - أونغ سان سوكي.

وضعت التّطوّراتُ الأخيرةُ في ميانمار الهندَ في حيرةٍ من أمرها لاعتباراتٍ جيوسياسيّةٍ وتغيّراتٍ دوليّةٍ، مع تسلّم الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن إدارة البيت الأبيض، في دعم الجيش أم دعم الحركات الدّيمقراطيّة واحترام حقوق الإنسان  وحريّة التّعبير والميل إلى الموقف الأمريكيّ والغربيّ ضدّ إعلان حالة الطّوارئ وقمع الحريّات. وقد زادت الهند من حجم التّبادل التّجاريّ مع ميانمار ليصل إلى قرابة ملياري دولارٍ امريكيٍّ  في محاولةٍ لإبعاد النّفوذ الصّينيّ عنها واعتبارها بوّابة الهند إلى دول جنوب شرق آسيا. وهناك الكثير من المشاريع لتنمية البنية التّحتيّة التي تموّلها الهند مثل الطّريق الثّلاثي السّريع بين الهند وميانمار وتايلاند/ وربط ميناء راخين في ميانمار مع كالكوتا في الهند عن طريق البحر. وميانمار هي عضوٌ في مجموعة التّعاون الإقليميّ لدول حوض البنغال الاقتصاديّة الصّغيرة (بيمستيك-BIMSTEC). كما قامت الهند بتعزيز التّعاون العسكريّ والأمنيّ مع ميانمار، وتقوم ببيع الأسلحة وإجراء التّدريبات العسكريّة معها، وجاء موقف نيودلهي أكثر تعاطفاً مع حكومة ميانمار بما يتعلّق بقضيّة مسلمي الروهينغا.

تتميّز ميانمار بالتّعدديّة القوميّة والعرقيّة  بين السّكان الذين يبلغ عددهم تقريباً 60 مليون نسمةٍ. و تشكّل أقليّة البورمان التي تتقاسم السّلطة مع الجيش النّسبةَ الأكبر من السّكّان بحوالي 55-60%، وتقطن الأقليّات الأخرى شان وكارن والأراكانيس بالقرب من الحدود مع دول الجوار. وتعتبرُ الأغلبيّةُ البوذيّةُ الأقليّاتِ المسلمةَ والمسيحيّةَ تهديداً لكيانها، ولذلك كان موقف أونغ سان سوكي من قضيّة مسلمي الروهينغا مسألةً وطنيّةً وقوميّةً لإبقاء الجيش قويّاً في وجه المحاولات المشبوهة لإضعافه وزعزعة الأمن والاستقرار في البلاد وتقطيع أوصاله على شاكلة يوغسلافيا  سابقاً والعراق لاحقاً.

الخاتمة

لاشكّ أنّ مايحدث في المنطقة مرتبطٌ بالصّراع بين القوى العظمى، خاصّةً الولايات المتّحدة والصّين، وبالتّالي فإنّ الاضطرابات في هونغ كونغ وتايلاند والآن في ميانمار تشكّل جزءاً رئيسيّاً من هذا الصّراع ، خاصّةً وأنّ الدّولتين – تايلندا وميانمار-  تعتبران الحجر الرّئيسيّ للمبادرة الصّينيّة (خطٌّ واحدٌ - طريقٌ واحدٌ)، وهذا قد يعطي مؤشّراتٍ لأيادٍ خفيّةٍ وراء الثّورة البرتقاليّة التي لم تكتمل بعد في ميانمار، ولكنّ هذا لن يمنعنا من الوقوف إلى جانب حقّ الشّعوب في ممارسة الدّيمقراطيّة والحرّيّات الفرديّة، ويترتّب على الجيش العودة إلى الدّيمقراطيّة وضمان الأمن والاستقرار في البلاد.

                                           الدّكتور وائل عوّاد

                         الكاتب والصّحفي  السّوريّ المتخصّص بالشّؤون الآسيويّة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.